تراني دائما أقود دراجتي الهوائية السوداء هروبا من ضجيج المدينة وصخب دواليبها وضوضاء الحركة التي تعج بطرقها، فتكتم أنفاسنا بصوت المحركات المرعب وأدخنتها السامة وتنقص من دورة حياتنا و تطفئ شموعنا يوما بعد يوم.
وذات مساء دافئ دفئ شهر أفريل كانت وجهتي متنزها صغيرا على أطراف المدينة، قصدته طلبا للاسترخاء والراحة والتخلص من روتين العمل ومشاغل الحياة، جلست بجانبي واستبقتني آخذة مكانا لها على جنبات كرسي صنع من خشب الخيزران، كان بريقه يعبث بومضات ما بقي من أشعة باهتة لشمس تهم بالغروب و تأخذ من أفق سماء مدينتي ملاذا وموطنا لتنام وتخلد للراحة.
كانت تسترق النظر إلى مقلتي المتعبتين بكل أدب وعناد تارة، وتمحص في تفاصيل وجنتي وأهداب عيوني وتغوص في صفحات حياتي المتشعبة تارة أخرى، خلتها صاحبة قارئة الفنجان أو قارئة لغة العيون والمحبين.
كانت تلوح بتعابير لزميلاتها اللواتي ألفنها وألفن تفاصيل حياتها، فمصيرهن سواء.
كانت آية ربانية في الجمال وعنوانا من الرونق المرسوم بالوشم والمطرز بخيط الذهب، تسحر الناظر وتشدو بالعقل المحب للحسن والإبداع، رداؤها الربيعي الفاتحة ألوانه يسبي العقول وأقفال معطفها القرمزي حلة من الدرر وأحجار الماس الكريمة، وشاحها الوردي عبق مختم ومنمق بأبهى الحلل والنياشين، وقبعتها الربيعية البيضاء الخفيفة كأنها تحفة مهربة من خزائن ملكات بريطانيا أو أميرات بلاد الغال.
كانت جميلة دون مساحيق أو بودرة، فشغلت بالي وأوقفت محرك التفكير في مخيلتي برهة من الزمن بتناغم ألوانها وحركتها الخجولة الأنيقة، نظراتها البريئة كانت تبوح بأحاسيس حزينة عششت على مدخنتها القديمة طيور اللقلق وغزت أقدارها المترامية غربان حمقاء لا تعرف من الفنون إلا أكل الجيفة وعزف سيمفونية مرعبة و نوتات مخيفة، وكأنه مشهد في فيلم الفريد هيتشكوك العقدة النفسية.
كانت تقلب صفحاتها من زمن جميل مضى، أو موسم يلملم جراحه وأوراقه بنبرة يائسة، أو كأرملة تكفكف دموع صغيرها، أو كمسافر يجمع حقائبه على مضض أمام شباك التذاكر ليركب القطار السريع و يغادر على عجل.
لقد شدني أكثر ونخر قواي شعورها البائس بؤس اصفرار أوراق الشجر، وشح السحاب لأرض مدينتي عن المطر، ولوعة فراق حبيب مل الليل وعشق السهر، أو لقاء مجنون ليلى قبل أن يخون ويغير محطة السفر، ويضرب بخنجره المسموم أسفل الظهر.
كان السكون يجثم على أطراف المكان و يرفع من أوتار حزنها وشغفها بحياتها و طفولتها ومراحل تطورها ودنو أجلها، لقد رسمت أجمل اللوحات، ونافست بيكاسو ودولاكروا ودينيه، فالانطباعية مدرستها والغريب الخارق ريشتها، وألوان الطيف روحها وأوكسوجينها الذي تتنفسه، وجملت الحدائق والدروب وسلبت عقول أزهار الأقحوان ومسك الليل، فكانت ملهمة الفنانين والرسامين وقاهرة الشعراء والمبدعين و سيدة الركح بلا منازع.
استنطقتها بعد عناء وطول انتظار،ما اسمك أيتها الحلوة؟ فردت، أنا آخر كومبرس في مسرحية فصل الربيع، فصل الجمال و الخصوبة والزهور والابداع، أنا أصلي شرنقة بيضاء شريفة قدري محتوم وعمري يعد على الأصابع، أرسم الجمال وأكتب بأقلامي أن للرونق عنوان، دون عمولة أو أثمان، فهلا تفكرتني أيها الطيب الإنسان و شكرتني يا ولهان، لم أجد من يودعني و يجبر بخاطري ويثني علي بشكر، فالمال و الجاه أخذته الورود والعسل، ولم يكتب اسمي على افيشات الفيلم أو المسرحية، كبار المنتجين وصناع الأفلام أكلوا الأخضر واليابس ونسب لهم النجاح و أفرشت لهم أرض مدينة كان الفرنسية الساحرة أو هوليود السجاد الأحمر الملكي.
بكيت لحالها، وقلت لها:
أنت يا سيدة خشبة المسرح والسينما، وأيقونة فصل الربيع، احترامي لك سيكون بحجم الكون، لكن لا أعرف متى يكون عزاؤك، ومراسم جنازتك أفي المسجد أم في الكنيسة أم في المعبد………..
تنهمر دموعي طواعية دون سابق إنذار و أنا أواسي محنتها وكان طارقا لباب حياتها يأمرها بالانصراف وترك المكان، هناك عند شجرة الميموزا زميلاتها تنتظرن، فاعتذرت المسكينة الحائرة مني بكل احتشام وعلت ألوانها سماء الحديقة الحزينة و ركبت عربة قطار الحياة دون رجعة، ورفرفت روحها الطاهرة على الكرسي و الشجر والمدينة، وحز في نفسي فراقها ومسحت دموعي بروية وشجون،
واصطحبت دراجتي وغادرت المكان .
شريط نبيل