أيها المؤمنون: إن من أيام الله الخالدات محطات تنبض بالعزة واليقين، ويتجلى فيها تأييد الله لأوليائه المتقين، وتظهر فيها قوة الجبار عز وجل في إهلاك الطغاة والظالمين، “ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة وإن الله لسميع عليم”. ألا وإن من تلك الأيام المباركات، والنفحات العطرات؛ يوم الفاتح من نوفمبر، وما أدراكم ما فاتح نوفمبر، يوم شهد فيه التاريخ أن أمة مؤمنة واصلت ذروة الحرية والاستقلال، وأعلنت أن العبودية لله وحده، وأن هذا الوطن لن يبنى إلا على دماء الشهداء وصبر المؤمنين. لقد كان جهاد شعبنا في الجزائر جهادا خالصا لوجه الله، خاضه لاسترجاع كرامة سلبت، وحرية أهينت، ودين حورب في المساجد والمدارس والزوايا بل وفي كل ركن من أركان هذه البلاد المباركة، ” يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون “. وإن من تأمل بدايات الثورة المباركة أيقن أن الله وحده هو من أيقظ الهمم وبعث الأرواح، فالشرارة الأولى إنما توقدت من قلوب شباب آمنوا إيمانا كاملا أن هذا المحتل الغاصب الذي جثم على كرامة الجزائريين لأكثر من قرن من الزمان لن تنفع معه مفاوضات، ولن يجدي معه حوار، وأن الانفكاك منه لن يكون إلا بالجهاد المقدس، وأن نيل الاستقلال لن يمر إلا عبر قتال مرير، وتضحيات جسام. وهكذا سطرت ملحمة التحرير الكبرى، بسواعد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجال لم يبتغوا مالا ولا شهرة، وإنما “إحدى الحسنيين”: النصر أو الشهادة.
كانوا يعلمون أن الموت لا يأتي إلا بإذن الله، وأن الحرية لا تولد إلا من رحم الإيمان. ولكم أن تتصوروا مشهد المجاهدين في الجبال، وهم ينامون على الصخور في العراء، ويقتسمون اللقمة اليابسة بينهم، تحاصرهم الطائرات بقصفها، والمدافع بنيرانها، ولكنهم يجدون في قلوبهم سكينة لو وزعت على الأمة يومئذ لكفتها كلها؛ لأنهم أيقنوا أنهم نالوا معية الله، ومن كان الله معه كان معه كل شيء في هذا الوجود، ” إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم “. فكانت الثورة المباركة جهادا في سبيل الله ودفاعا عن الأرض والعرض، وكانت عبادة جماعية يرفع فيها الناس راية “لا إله إلا الله” فوق كل راية. لقد كانت هذه الثورة المباركة امتدادا لثورات سابقة، أبلى فيها أجدادنا بلاء حسنا في مواجهة المحتل الغاصب، وقارعوا جنوده ببطولات نادرة على مر سنين طويلة، لم يستكينوا فيها لوحشية المحتلين الذين لم يسلم من مجازرهم شيخ طاعن في محرابه، ولا صبي صغير يلعب في بيته، ولا امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، وحشية لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا إلا فيما نراه اليوم من جرائم إبادة يرتكبها الصهاينة في حق إخواننا في فلسطين، نسأل الله أن يرفع عنهم بطشهم وطغيانهم. وتكوّن عبر السنين الطوال وعبر النضال المستمر وعي عند الشعب لا يخالطه شك أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، خاصة مع عدو أظهر كل أنواع المكر والغدر والخديعة. أيها الأحبة في الله، إن الجهاد في معناه الواسع لا يقتصر على السيوف والدماء، بل هو مقاومة كل باطل وعدوان على ديننا وقيمنا وهويتنا. فيا من تحبون وطنكم، اجعلوا حبه طاعة تتقربون بها إلى الله، واخدموا بلدكم بإخلاص يليق بهذه الأرض التي سقيت بالدماء الطاهرة الزكية، واصنعوا فيه ما يجعل الشهداء يوم القيامة ينتظرونكم تحت لواء سيد المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. نسأل الله أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يجزي مجاهدينا الصادقين الأخيار خير الجزاء وأوفاه على ما قدموه في سبيل هذا الوطن المفدى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
– الجزء الأول من خطبة الجمعة -جامع الجزائر