إن منظومةَ العَلاقات الاجتماعية في الشريعة الإسلامية من أدقِّ المنظومات صياغةً، وأحكمِها تركيبًا، وأجودها صنعةً، ولا ريب في ذلك ما دامت مِن وضع حكيمٍ خبيرٍ، عالمٍ بخبايا النفوس البشرية وأسرارها وما تنطوي عليه. ولقد أرسَتِ الديانةُ الإسلامية أسسًا وضوابطَ للخَلقِ لا يحيدون عنها، تُسهِّل لهم سُبُل العيش، وتُعبِّد الطريق للتفاهم والتحاور، حتى مع الآخر المخالف لهم، على جميع المستويات؛ الأسرية، والمجتمعية، وحتى الدولية والإنسانية عامَّة. ومِن بين المجالاتِ التي أَوْلَت لها الشريعةُ عنايةً فائقة، وأحاطتها برعاية ربانيَّة، يلمسُها المتبصِّر في الآيات والأحاديث الكثيرة والمعروفة، باعتبارها قيمةً أخلاقية، وأمرًا ربانيًّا، وشريعة محمدية: ” برُّ الوالدين”. وليس برُّ الوالدين بدعًا من القول في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل إنه خُلقٌ تربوي، وقيمة اجتماعية حكى عنها القرآن الكريم حتى في الأمم السالفة من الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم. والمتأمِّل لآيات القرآن يجدُها حافلةً بقصص البرِّ المتبادَل بين الآباء والأبناء، حاملي لواء النبوة والرسالة؛ كما في قصة يعقوب ويوسف عليهما السلام، وقصة مريم وعيسى عليهما السلام، وقصة يحيى وزكريا عليهما السلام، ولقمان وابنه، إلى غير ذلك من القصص المتضمِّنة لأسمى العِبر، وأرقى الدلالات.
لقد جسَّدت آيات الكتاب الحكيم برَّ الأنبياء بآبائهم في صور مختلفة، وأوضاع متنوعة من صنوف الحياة، وأضرب العيش. فقال تعالى حكاية عن يحيى عليه السلام: ” يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ” مريم: 12 – 14. وقال سبحانه عن عيسى عليه السلام: ” قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ” مريم: 30 – 34. وقال تعالى عن نوح عليه السلام: ” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ” نوح: 28. وقوله أيضًا عن إسماعيل عليه السلام: ” فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ” الصافات: 101 – 107. إن صور البرِّ هاته المأخوذة من كتاب الله تعالى حكايةً لأنبيائه، وتمثيلًا لبرهم بآبائهم لَتوضِّحُ قيمة قضية البر في المجتمع الإنساني، ومركزيته وأهميته بالنسبة لاستقرار المجتمع وتماسكه.
من موقع الالوكة الإسلامي