يعيش قطاع غزة حربًا ضروسًا، منذ أكثر من 200 يوم، تخطى فيها عدد الشهداء 35 ألفا، وتجاوز عدد المصابين 70 ألفا في واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في التاريخ.
تلك الحرب كما سجلتها الكاميرات والتسجيلات والهواتف الذكية ونقلتها الأقمار الصناعية، سجلها الناجون على الجدران والركام كمحاولة لتقديم سردية فلسطينية نفسية لأهوال الحرب.
يرى الكاتب جيفري آيان روس أنه على مدى الـ50 عامًا الماضية، كان هناك ارتفاع ملحوظ في كمية وتنوع الكتابة على الجدران وفن الغرافيتي في المناطق الحضرية الكبرى، مصحوبًا باهتمام متزايد بهذا الشكل من الفن العام.
وبغض النظر عن التعريفات الدقيقة، فإن الصورة التي تركها الغرافيتي في الذهن كنوع من أنواع الفنون البصرية، هو أنه شكل من أشكال التمرد السياسي، لكن بطريقة فنية.
كذلك يرى روس أن قدرًا كبيرًا من الكتابة على الجدران وفن الشوارع قد تم إنشاؤه بالفعل خلال فترات الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، والاحتجاجات (على سبيل المثال، حياة السود مهمة Black). ومع ذلك، هناك مجموعات كبيرة من فنون الغرافيتي معنية بشكل أكبر بتأريخ الصراعات السياسية.
هذا ما يحدث في حالة غزة بالتحديد؛ هذا الشريط الساحلي الضيق المُطل على البحر المتوسط، فالرسم على الجدران، أو فن الغرافيتي، في تلك المنطقة المشحونة بالأهوال والمعاناة والآلام، تأتي بمثابة وسيلة قوية للتعبير عن محنة الشعب الفلسطيني في غزة تحت نير الجدار العازل والتهجير وفقدان الأرض.
في الجداريات على عكس لوحات المستشرقين السياسية، تنهض غزة من بين الركام مرة أخرى تقف قوية على يد فنانيها ورساميها تعلن عن جرحها وعذابها ووجودها.
ومن المفارقات، أنها لا تموت ولا تنتهي كأنها عنقاء تُبعث من تحت الرماد؛ فلا يتمالك المتبحر في الفن التشكيلي إلا أن يضحك من وهم “أرض بلا شعب” الذي روجت له الكولونيالية الأوروبية من القرن التاسع عشر في عشرات وعشرات اللوحات الرومانسية عن العودة للأرض المقدسة.
نظرة واحدة لجداريات غزة بعد السابع من أكتوبر بالمقارنة بلوحات المستشرقين، على سبيل المثال “غزة” للرسام البريطاني ديفيد روبرتس التي رسمها عام 1839، والتي تظهر كأرض خاوية مهجورة لا يسكنها أحد، تفضح كل شيء.
الغرافيتي والرسم على الجدران في حالة غزة ليست مجرد فعل للتعبير عن الذات، ولكنه أيضًا شكل من أشكال التأريخ الشخصي للفلسطينيين للحظات القصف وما يتبعها من صدمات نفسية تستمر مدى الحياة.
الغرافيتي في غزة ليس مجرد ممارسة فنية لشعب يتمتع بالرفاهية والرخاء، بل هو وسيلة لتقديم سرد مرئي، من جانب الفلسطينيين، لمعنى أن تكون غزاويا في عالم تتكالب فيه أنظمة عدة لتجريدك من أرضك ومحوك من الوجود.
ويستعمل الفنانون الرمزية، والمجاورة، والمفارقة في سعيهم لتمثيل أهوال أن تسقط بجوارك مواد متفجرة لكنك بأعجوبة لم تمت. وهذا لا يعني أنك نجوت. لأن الهاوية والأثر الذي تركته الحرب في الروح أكبر من أن يداويها شيء.
ق\ث