العمر الثاني

العمر الثاني

 

ما من أحدٍ من الناس إلا وهو يريد أن تطول حياته، فالمؤمن يتمنى ذلك ليعمُر دينه ودنياه، ويزداد طاعةً وإقبالًا على مولاه، وهو ما يحبِّذه الشارع الحكيم كما في الحديث عنْ أَبي هُريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: “لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إِمَّا مُحسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ”، متفقٌ عَلَيْهِ، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: “من طال عمُره، وحسُن عمله”. والنفس مجبولةٌ فطرةً على حب الحياة وكراهية الموت كما قالت أمُّنا عائشة رضي الله عنها: “كلنا نكره الموت”، غير أن تلك الأمنية وتلك الكراهية لا تغير من الأمر شيئًا؛ فإن الله تعالى قد كتب الموت على الخليقة وقضاه على من سواه سبحانه، فهو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، فالموت حتمٌ على رقاب العباد. والحياة الحقيقية هي التي تكون ذاتَ أثرٍ في نفسها بالانتفاع بسماع الحق، والبقاء بالذكر الحسن بعد الانتقال لدار البقاء، كما قال الله تعالى في شأن الشهداء: ” وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ” البقرة: 154، فهؤلاء أحياء بما تركوا من أثر في حماية الدين والدنيا، وكذا من بقي أثرُه بصالح عمله من علم ينتفع به، أو عملِ خير ينتفع به الناس فيذكر عندهم بالثناء والدعاء، وهذا ما أراده أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بدعوته ربه: ” وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ” الشعراء: 84، ومثل هذه الحياة هي في متناول كل إنسان، إن صحبه الإخلاص والتوفيق للعمل الصالح فيعيش بها في دار برزخه كما لو كان في حياته. وفي الهدي النبوي يقول عليه الصلاة والسلام: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، فالموفق يحرص على بقائه حيًا في هذه الحياة بجعل شيء من ماله وقفا لله تعالى، يحبس أصله ويبقى نفعه، وأجره وذكره، مثل الوقف على المشاريع الخيرية والمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها. ومما يبقى أثره ويدوم خيره الدعاء الصالح للعبد من الولد وغير الولد، فهو بذلك باقٍ في هذه الحياة التي فني عنها الكثير، فما أعظم هذه الحياة التي يعيشها المؤمن العالم والعامل والباذل في برزخه يتفيأ فيها ظلال إحسانه ويجني ثمار الدعوات الصالحة من الناس.

موقع إسلام أون لاين