العفوُ … شِعارُ الصالحين الأتقياء

العفوُ … شِعارُ الصالحين الأتقياء

العفوُ شِعارُ الصالحين الأتقياء، ذوِي الحِلم والأناة، والنفوس الرضية، والصفحُ دثارهم؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ إيثارٌ للآجلِ على العاجل، وبسطٌ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ، ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا محبةَ وإكبارَ من هذه صفتُه، وهذا ديدَنُه. إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقَلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه، إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين أيدهمُ الله تعالى بِرُوحٍ مِنهُ، ومِن هنا يأتي التميُّزُ عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ، في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: “ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ”.

إنَّ شريعتَنا الغرّاء، يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق بخلقِ العفو والتجاوُز، لم تقصِر هذا الحضّ في نطاقٍ ضيق، أو دائرة مغلَقَة، بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا، ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل، بل إنَّ الحضَّ على العفوِ، قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُعَ الناس وشراءَهم، ومدايناتِهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ”، ولقد تعدَّى الحضُّ على ذلك إلى أبوابِ الدِّماء والقِصاص، كما في قولِه تعالى: ” وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ” المائدة: 45.

إن العفو والتجاوز، لا يقتضِي الذِّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّةُ القوة والشجاعة، وغلَبَةِ الهوى، قال الفضيل بنُ عياض رحمه الله تعالى: “إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي، اعفُ عنه، فإنَّ العفو أقرب للتقوى، والعفو باب واسع، ” وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” الشورى: 40. واعلَم أنَّ ترغيب الشريعة على العفوِ والتجاوُز، لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل إنَّ الحثَّ عمَّ الظاهر والباطنَ معًا؛ فحضت الشريعة على التجاوز عن الذنبِ بالكلية، واعتبارهِ كأن لم يكن، وبدايةِ صفحةٍ بيضاءَ جديدةٍ، في العلاقة مع المخطئ، وإسقاطِ اللوم الظاهر والباطن. ولذا أمَر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم، بذلك في قولِه: ” فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ” الحجر: 85، وقولِه تعالى: ” فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” المائدة: 13، قال السعدي رحمه الله تعالى: فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده.

من موقع الالوكة الإسلامي