نظم المركز الثقافي لجامع الجزائر، الأربعاء، ندوة علمية بعنوان “صفحات من بطولات المسلمين.. وقفة مع فتح مكة ويوم النصر”، وذلك بحضور نخبة من العلماء والمفكرين والباحثين، إلى جانب جمهور واسع من المهتمين بالشأن الديني والتاريخي. وناقشت الندوة الدروس والعبر المستخلصة من فتح مكة وعيد النصر في الجزائر، وربطت بين الحدثين باعتبارهما محطتين بارزتين في مسيرة النضال الإسلامي ضد الاستعمار والظلم.
كلمة الشيخ المأمون القاسمي: فتح مكة يوم الرحمة والمغفرة
افتُتحت الندوة بكلمة ألقاها الشيخ المأمون القاسمي، عميد جامع الجزائر، أكد فيها أن شهر رمضان شهد عبر التاريخ أعظم انتصارات المسلمين، ومن بينها فتح مكة عام 8 هـ، والذي كان حدثا مفصليا في تاريخ الإسلام، حيث استطاع النبي ﷺ وأصحابه استرجاع مكة دون إراقة الدماء، مقدمين درسا في التسامح والرحمة. وقال القاسمي: “عندما دخل النبي مكة، كان باستطاعته أن ينتقم ممن اضطهدوه وعذبوا أصحابه، لكنه اختار الصفح وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهذا درس عظيم يجب أن تستلهمه كل الشعوب المنتصرة، ومنها الجزائر التي حققت استقلالها بعد قرن وثلث من الاستعمار الفرنسي، لكنها لم تنجر إلى الانتقام، بل سعت إلى بناء دولة تقوم على العدل والمساواة”. كما شدد الشيخ القاسمي، على أهمية استخلاص العبر من هذه الأحداث التاريخية، داعيا الأجيال الجديدة إلى التمسك بالقيم الإسلامية في بناء مجتمعاتهم.
البروفيسور موسى إسماعيل: استلهام العبر من الماضي لبناء المستقبل
بعد ذلك، قدم البروفيسور موسى إسماعيل مداخلة تناول فيها دور المناسبات التاريخية في تشكيل وعي الشعوب، موضحًا أن استذكار الأحداث الكبرى ليس مجرد استعادة للماضي، بل هو أداة لتوجيه الحاضر والمستقبل. وقال إسماعيل: “فتح مكة لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان نقطة تحول في مسيرة الأمة الإسلامية، حيث وحّد شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام. وبالمثل، فإن عيد النصر في الجزائر يمثل محطة مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، إذ أثبتت الثورة الجزائرية أن النضال المستمر والإيمان بالقضية يؤديان في النهاية إلى التحرر.” وأكد إسماعيل، أن دراسة هذه الأحداث يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من المناهج التعليمية، حتى تبقى الأجيال القادمة متصلة بجذورها التاريخية.
الأستاذ خالد صابر شريف: دروس 19 مارس 1962 في تحقيق النصر
من جهته، ركز الأستاذ خالد صابر شريف على أهمية 19 مارس 1962، يوم وقف إطلاق النار في الجزائر، معتبرًا أنه يمثل المرحلة الأخيرة من نضال طويل خاضه الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، تمامًا كما كان فتح مكة تتويجًا لسنوات من الصبر والمعاناة التي عاشها النبي ﷺ وأصحابه. وقال صابر شريف: “النصر لا يأتي بين عشية وضحاها، بل يحتاج إلى تضحيات كبرى. وكما أن فتح مكة لم يكن مفاجئًا، بل كان نتيجة لسنوات من الكفاح والدعوة والتخطيط، فإن عيد النصر في الجزائر جاء كثمرة لتضحيات الشعب الجزائري وصموده في وجه واحدة من أعتى القوى الاستعمارية في العالم”. وشدد على أن فهم هذه الأحداث يساعد في توجيه الشعوب نحو تحقيق أهدافها العادلة.
الأستاذ علال بيتور: التخطيط الاستراتيجي في فتح مكة والثورة الجزائرية
أما الأستاذ علال بيتور، فقد تناول البعد الاستراتيجي في فتح مكة والثورة الجزائرية، مشيرًا إلى أن النجاح في كليهما لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تخطيط دقيق وحكمة في التعامل مع الأحداث السياسية والعسكرية. وأوضح بيتور أن النبي ﷺ استفاد من الظروف السياسية التي كانت تمر بها قريش، حيث ضعفت بعد صلح الحديبية، مما مكّنه من دخول مكة دون قتال. وبالمثل، فإن الثورة الجزائرية استغلت الظروف السياسية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت في كسب الدعم الدولي لقضيتها، مما ساهم في إجبار فرنسا على التفاوض والاعتراف بحق الجزائريين في الاستقلال. وأضاف: “التاريخ يعيد نفسه، واليوم نرى أن المقاومة الفلسطينية تواجه ظروفًا مشابهة لما واجهه النبي ﷺ وأصحابه، وما واجهه الشعب الجزائري خلال ثورته. والتخطيط الجيد، إلى جانب الصبر والإيمان بعدالة القضية، هو ما يؤدي إلى النصر في النهاية”.
الدكتور أحمد بن يغزر: من يصنع التاريخ اليوم؟
وفي ختام الندوة، قدم الدكتور أحمد بن يغزر مداخلة حول دور الأفراد في صناعة التاريخ، مشيرًا إلى أن التاريخ ليس مجرد أحداث عابرة، بل هو نتيجة لجهود أشخاص قرروا أن يغيروا الواقع. وقال بن يغزر: “لو لم يكن هناك رجال مثل النبي ﷺ وأصحابه، لما تحقق فتح مكة. ولو لم يكن هناك رجال مثل قادة الثورة الجزائرية، لما تحقق استقلال الجزائر. السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم هو: من هم الأبطال الذين سيصنعون تاريخ الأمة في المستقبل؟”. وأكد أن الشعوب التي تسعى للنصر يجب أن تتحلى بالإيمان والعزيمة، لأنها وحدها الكفيلة بتحقيق التحرر من أي شكل من أشكال الاستعمار.
الختام.. دروس الماضي لمستقبل الأمة
اختُتمت الندوة بتأكيد المشاركين على أن ذكرى فتح مكة وعيد النصر في الجزائر ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي دروس متجددة يجب أن يستفيد منها المسلمون اليوم، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية.
محمد بوسلامة



