سجلت السينما الجزائرية شهادة ميلادها في ساحات المعارك، تلطخت عدستها بغبار وأوحال مسالك الجبال الشاهقات وتلطخت بدماء الجزائريين، لذلك كانت أصدق نبأ من أية كلمة أو خطبة عصماء، لتتحول إلى دفتر للتاريخ ينطق بالصوت والصورة، ويعيد للذاكرة الجماعية أحداثا غير قابلة للنسيان، ستبقى ما بقي الزمان شعاعا لكل طالب حق ولكل أحرار العالم.
ارتبطت الذاكرة ومسيرة شعب أعزل بالسينما الجزائرية، ما أكسب هذه الأخيرة التزاما خاصا ومكانة تتعدى الترفيه وقصص الخيال المبهرة، الأمر الذي كتب لها العمر الطويل لتصنف في الروائع الصالحة لكل زمان ومكان.
ارتبطت السينما الجزائرية وما تزال بقيم المقاومـة والذاكـرة والتحرر، ما أعطاها شرعية تناول القضايا العادلة عبر شاشتها الفضية وبأسماء كانت بالأمس تدافع عن القضية الجزائرية، لذلك فليس من الغريب مثلا أن تقدم الجزائر ومنذ سنواتها الأولى من عمر استقلالها أعمالا عن فلسطين وعن لبنان وأيضا الفيتنام.
ما يقال عن التجربة السينمائية الجزائرية أنها ثرية رغم أن الكثيرين يرون تقصيرا في غزارة الإنتاج وفي تناول المزيد من ذكريات ووقائع الثورة والتاريخ الوطني عموما.
ما يلاحظ، حسب من تابعوا مسيرة الفن السابع الجزائري، أن السينما الجزائرية استطاعت أن تصور تفاصيل الواقع دون اللجوء إلى الخدع السينمائية ووسائلها في رسم الأبطال، فكانت سينما من الواقع المعاش وبأبطال هم من صميم البيئة التي يقدمها سيناريو الفيلم كما كان الحال مثلا مع فيلم “نوة”، ولم يكن السينمائيون سوى جنودا ومجاهدين حملوا أرواحهم على أكتافهم، لا تهمهم الشهرة ومجد الفن ولا النجومية، بل كان يهمهم تأدية رسالة نحو وطنهم وشعبهم المكافح.
استطاع السينمائيون المُجاهدون إنجاز العشرات من الأفلام القصيرة التي تصور معارك ثورة التحرير، إضافة إلى حوالي عشرة أعمال تمتلك مقومات الفيلم السينمائي منها، “اللاجئون” و”الجزائر المُلتهبة” و”ساقية سيدي يوسف” و”جزائرنا” و”عمري ثماني سنوات” و “ياسمينة” و”صوت الشعب” و”بنادق الحرية” و”خمسة رجال وشعب” وغيرها من الأفلام التي صورت أثناء الثورة، علما أن نسخ (النيغاتيف) للأفلام المُصورة كانت تهرب إلى خارج الجزائر، لاستكمال العمليات التقنية.
لم ينل الجزائريون أي فائدة تقنية أو فنية تذكر من الصناعة السينمائية الغربية والأفلام التي تم إنجازها في الجزائر، ويذكر أن المُخرج جمال شاندرلي حصل بطرقه الخاصة على بعض المُعدات التلفزيونية، وأنشأ وحدة إنتاج سينمائي في مغارة بأحد الجبال، وقام بتدريب وتأهيل مجموعة من المُجاهدين حتى وصلوا إلى مستوى من الاحترافية في التصوير والإخراج.
كان الفيلم الوثائقي في السينما الجزائرية منذ نشأتها وعبر مسيرتها سلاحا فعالا لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول العمل على نقل الواقع الفعلي وتوثيق الأحداث والوقائع التي شهدها الصراع ضد المستعمر الفرنسي من جهة، وهذا الأمر لم يكن يقتضي أي ميكانيزم للحيل السينمائية أو ترتيبات، فالسينمائيون كانوا شهودا على لحظات وأحداث الكفاح المسلح، ومن ثمة فهو إعلام دون تشويه للواقع، ودون عمل دعائي يضخم ويقزم، ويحذف ويضيف، وفي مرحلة تالية كان لا بد من استخدام الفيلم الوثائقي السينمائي كسلاح للدعاية الثورية في أوساط الجماهير الشعبية من جهة، والعمل على صناعة رأي عام عالمي يتبنى القضية الجزائرية ويدافع عنها في المحافل الدولية من جهة ثانية، وهذا كان يقتضي إخضاع المادة السينمائية إلى عملية بناء وتركيب من أجل التأثير في المتلقين.
قامت الثورة حينها بتأسيس وحدة سينمائية ضمت مجموعة جزائريين نالوا تكوينا لا يتجاوز العامين في بعض الدول الصديقة للثورة الجزائرية، من أمثال محمد الأخضر حامينا، ومحمد سليم، ورياض سليم، وعلي جنادي، ثم أسست الحكومة المؤقتة الجزائرية، سنة 1960، مصلحةَ السينما ومدرسة التكوين السينمائي في المنطقة الخامسة بالولاية الأولى، وكان المُشرف عليها رونيه فوتيه وهو سينمائي فرنسي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني.
كتب المُفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، عن لقاء جمعه مع جيلو بونتيكورفو بعد عشرين سنة من خروج “معركة الجزائر” “سألته.. ما الذي يروق له، بعد عشرين عاما، في “معركة الجزائر”..؟ قال: إنه البناء السيمفوني، والقوة الأوركسترالية في الفيلم، الذي ينبثق فيه كفاح شعب قمع طويلا من أجل الحرية مثل تيار عظيم، حتمي، وظافر، ولا مرد له”.
وحول قيمة الفيلم والجوائز التي حصدها، قال ادوارد سعيد : بأنّ فيلم “معركة الجزائر” فيلم جدير بالمكانة التي احتلها في السينما العالمية، ليس لأنه صور انتصارا حديثا ومثيرا للثورة على واحدة من أقدم الإمبراطوريات وحسب، وإنما أيضا لأن روحه مفعمة بالتفاؤل الثوري الغني..
عهد امتد لما بعد 62
أشار بعض متابعي مسيرة السينما الجزائرية إلى أنه رغم حداثة هذه السينما، فقد استطاعت أن تحتل مكانة عالمية مرموقة، خلال عقدين من الزمن بعد ولادتها الأولى، وتستقطب انتباه النقاد والدارسين والمُشاهدين، وتنال أكبر الجوائز العالمية، وذلك بفضل شبابها الذين تسلّحوا بقيم التحدي ومغالبة الصّعاب، وتغذّوا بكل ما في ثورة التحرير الوطني من بطولات وأمجاد وقيم إنسانية وأخلاقية. بالإضافة إلى خصوصية السينما الجزائرية التي ولدت في “اللّهب المُقدّس”، وهذا الأمر بحد ذاته يمثل قيمة كبرى يجب أن يعِيها ويستوعبها كل السينمائيين الجزائريين من مختلف الأجيال.
إنّ اِشتغال السينما الجزائرية على الثورة الجزائرية جاء من خلال التوجهات الإيديولوجية التي رسمتها الدولة آنذاك وهي بناء الدولة الوطنية التي تقوم على الشرعية الثورية، ما تطلب التركيز على خلق رموز للثورة وتخليد المآثر التي قام بها المجاهدون والشهداء الذين ضحوا من أجل هذا البلد والتركيز في العموم على الشعب الذي يعتبر البطل الحقيقي لثورة التحرير.
فكرة “الشعب هو البطل”- كما وصفها أحد النقاد – منحت الثورة قوة عالمية وجعلتها مرجعا للشعوب المُناضلة من أجل حريتها، يموت الأبطال وينتصر الشعب وهو القيمة الإنسانية التي ترسخت بقوة في السينما الجزائرية مما يحسب لها.
مرت السينما الجزائرية بمراحل مختلفة تنوعت فيها الموضوعات وعرفت أجيالا من المُخرجين والمُمثلين، ولكنها حافظت على ارتباطها الوثيق بثورة التحرير الوطني، فقد كانت أغلب الأفلام تنهل من الرصيد التاريخي الثوري.
هكذا كان لكل مرحلة جيلها السينمائي، رغم حصة الأسد التي عادت لجيل السينمائيين الثوار، لتبقى السينما رافدا فعالا في بناء الشخصية الوطنية، ووسيلة لتعميق الوعي، ظلت عندنا تحت عباءة التاريخ والتراث والأدب والواقع، علما أن الجزائر تمتلك سينما لها مميزاتها التي تنفرد بها عن أي سينما أخرى في العالم، وأيضا إنها سينما حققت مكانتها العالمية من خلال حصولها على جوائز عالمية لم تحصل عليها أي سينما عربية حتى الآن وبفيلم عن التاريخ والمقاومة أثناء الاستعمار الفرنسي، وهي تسعى دوما لتجديد روحها في البطولة والثورة.
تبقى علاقة السينما بالتاريخ علاقة أخذ وعطاء، فالسينما تحول الحدث التاريخي لذاكرة سمعية بصرية، في حين أن التاريخ يزود السينما بالمواضيع.
عموما بإمكان الخطاب السينمائي المحافظة على الذاكرة بكل مكوناتها اليوم كما أمس، ويمكن أيضا النظر إلى السينما على أنها فن ووسيلة تعبير تقوم بإعادة إنتاج وخلق عناصر تمثيلية جديدة للذاكرة الثورية، والمساهمة في إدراك وفهم ونقد ديناميكية الواقع التاريخي، بفضل الذاكرة المرئية والسمعية للفيلم.
ص-ب