مع اقتراب موعد افتتاح الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية هذا الخميس، تبدو الجزائر وكأنها تعيش على وقع “اللمسات الأخيرة” التي ستجعل من هذا الحدث الاقتصادي والسياسي محطة بارزة في مسارها القاري.
فـ”قصر المعارض بالصنوبر البحري” تحول إلى ما يشبه “خلية نحل”، حيث تتسابق الأيادي لإنهاء الأشغال في أدق تفاصيلها. وبين “اجتماع عمل ترأسه رئيس الجمهورية” و”جولات تفقدية للوزير الأول بالنيابة”، تتجلى صورة دولة تراهن على أن يكون هذا الموعد القاري بمستوى تطلعاتها في لعب دور محوري كـ”بوابة العبور إلى فرص جديدة” داخل إفريقيا وخارجها.
إشراف رئاسي على التفاصيل
من أجواء “الروتوشات الأخيرة” التي ميزت الساعات الماضية، برزت رعاية خاصة من أعلى هرم السلطة. فقد ترأس رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، اجتماع عمل خُصص حصريا لمتابعة التحضيرات الخاصة بالمعرض، وهو ما يعكس أن الحدث هو “رهان وطني” يعبر عن إرادة سياسية واضحة. هذا الاجتماع جاء في توقيت دقيق، ليؤكد أن الجزائر تريد أن تكون كل التفاصيل محسوبة، من التنظيم إلى الاستقبال، ومن الجانب الأمني إلى الخدمات اللوجستية. اجتماع الرئيس جاء محمّلا برسائل سياسية واضحة. فالإشراف المباشر على تفاصيل معرض من هذا الحجم يُترجم “مكانة الجزائر” في القارة، ويؤكد رغبتها في أن تتحول إلى مركز استقطاب للمبادلات والاستثمارات. إن اختيار الرئيس متابعة التحضيرات بنفسه يعكس أيضا إدراكا بأن نجاح الحدث هو نجاح للدولة كلها، ورسالة بأن الجزائر مستعدة للوقوف في “واجهة إفريقيا” بثقة واقتدار. كما أن انعقاد الاجتماع في ظل اقتراب العد التنازلي، أضفى بعدا استثنائيا على مجريات التحضيرات. إذ يبدوا أن الرئيس شدّد على ضرورة “ضمان أفضل الظروف” للمشاركين والوفود، مع الحرص على تقديم صورة لائقة تعكس التحولات التي تعيشها الجزائر. هذا الحرص ينسجم مع الشعارات التي رُفعت للمعرض: “بوابة العبور إلى فرص جديدة”، ما يجعل الرسالة مزدوجة: داخلية لإبراز التنظيم والجاهزية، وخارجية للتأكيد على أن الجزائر شريك يُعتمد عليه. ويُمكن القول إن إشراف الرئيس على هذا الملف يعكس توجها ثابتا في التعاطي مع المواعيد الكبرى. فكما كان الأمر في القمم الإفريقية أو الزيارات الرسمية لزعماء دول كبرى، يحرص تبون على أن يكون حضور الجزائر “مؤثرا” و”منظما” و”رسميا على أعلى مستوى”. بذلك، تتحول الروتوشات الأخيرة من مجرد تفاصيل تقنية إلى عنوان سياسي بارز يختصر صورة الجزائر الجديدة.
زيارات ميدانية للوزير الأول بالنيابة
وإذا كان إشراف الرئيس قد أعطى التحضيرات بُعدا سياسيا ورسميا، فإن زيارة الوزير الأول بالنيابة، سيفي غريب، إلى “قصر المعارض بالصنوبر البحري” جاءت لتمنحها الطابع العملي والميداني. فقبل يومين من افتتاح الحدث، وقف المسؤول الأول عن الجهاز التنفيذي على “آخر اللمسات”، متنقلًا بين الأجنحة والقاعات، ليعاين بنفسه مدى جاهزية الفضاءات لاستقبال آلاف العارضين والزوار. هذه الجولة كانت رسالة بأن “التحضيرات بلغت مرحلتها النهائية” وبأن الدولة تتابع عن قرب أدق التفاصيل. وقد عكست تصريحات الوزير الأول بالنيابة خلال الزيارة حجم الرهانات الملقاة على عاتق الجزائر في هذه الطبعة الرابعة. فالتنظيم لا يُقاس فقط بعدد المشاركين أو بمساحة الأجنحة، بل بقدرة الدولة على أن تُقدّم للعالم صورة “متحضرة وحديثة”، قادرة على إدارة حدث إفريقي بامتياز. لذلك، حرص غريب على أن يُسدي تعليمات مباشرة لفرق العمل، تخص تحسين ظروف الاستقبال وتسهيل حركة الوفود، إضافة إلى ضمان راحة الزوار عبر الخدمات اللوجستية والإدارية. وتوقف الوزير الأول بالنيابة مطولًا عند بعض النقاط الحساسة، مثل الجوانب التنظيمية المتعلقة بمداخل قصر المعارض، وتخصيص فضاءات خاصة بوسائل الإعلام، إلى جانب التنسيق مع الأجهزة الأمنية لتأمين الحدث. وقد بدا واضحا أن الزيارة كانت جولة تفقدية حملت معها التزامات عملية، حيث دعا المسؤولون الميدانيون إلى رفع وتيرة العمل واستكمال ما تبقى من الأشغال في وقت قياسي. جولة سيفي غريب تؤكد أن الجزائر تُعطي لهذا الموعد وزنا استثنائيا. فالتحضيرات تتم على أرض الواقع وبحضور مسؤولين في أعلى مستوى. وهنا تتجلى “صورة الجزائر الجديدة” التي تسعى إلى إقناع الداخل والخارج على حد سواء بأنها بلد قادر على تنظيم أحداث كبرى بمعايير احترافية. إنها صورة تُضاف إلى الإشراف الرئاسي، لتُشكل معا مشهدا متكاملا عنوانه: الروتوشات الأخيرة تحت الرقابة المباشرة.
قصر المعارض ورشة مفتوحة
وإذا كانت الزيارات الميدانية قد أظهرت جدية الدولة في متابعة الحدث، فإن المشهد داخل “قصر المعارض بالصنوبر البحري” يكفي وحده ليعكس حجم الاستعدادات. فالمكان تحوّل إلى “ورشة مفتوحة” تعمل على مدار الساعة. التحسينات شملت تحديث البنية التحتية لضمان راحة المشاركين. فقد تمت إعادة تشغيل السلالم الكهربائية المتوقفة منذ سنوات، وتزويد الجناح المركزي بأنظمة تكييف متطورة، مع تخصيص مداخل خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة. هذه التفاصيل، وإن بدت بسيطة للبعض، فإنها تُعطي إشارات قوية بأن المنظمين حريصون على توفير تجربة “مريحة ومحترفة” للوفود والزوار القادمين من أكثر من 140 دولة. كما أولت التحضيرات أهمية قصوى للجوانب التنظيمية المرتبطة بوسائل الإعلام. فقد خُصص الطابق العلوي للجناح المركزي و”دار الجزائر” كمقر لوسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، مع تجهيز فضاءات حديثة تتيح تغطية آنية واحترافية للحدث. هذا الترتيب يعكس إدراكا بأن الصورة الإعلامية للمعرض لا تقل أهمية عن نجاحه التجاري، وأن الجزائر تراهن على إبراز قدرتها التنظيمية للعالم عبر عدسات الكاميرات. وفي خضم هذه الأشغال، لا يمكن إغفال الروح الجماعية التي تسود قصر المعارض. فالمشهد يُشبه خلية نحل يتكامل فيها جهد العمال والفنيين مع تعليمات المشرفين والمسؤولين. هنا، يظهر معنى “الروتوشات الأخيرة” بكل أبعاده: رسالة بأن الجزائر مستعدة لاحتضان حدث إفريقي ضخم، وأنها تراهن على التفاصيل الصغيرة لتصنع الفارق الكبير.
مشاركة دولية واسعة في انتظار الافتتاح
وبينما ينشغل قصر المعارض بـ”الروتوشات الأخيرة”، بدأت ملامح المشاركة الدولية تتجسد على أرض الواقع. فقد حط أول وفد رسمي، قادم من تشاد، الرحال بالجزائر، ليكون فاتحة لوصول عشرات الوفود من مختلف أنحاء القارة وخارجها. استقبال الوزير التشادي ووفده من طرف وزير التجارة الخارجية، كمال رزيق، إشارة واضحة إلى أن “الدبلوماسية الاقتصادية” تسير جنبا إلى جنب مع التحضيرات الميدانية. المؤسسات الإفريقية والدولية المشاركة شرعت بدورها في تجهيز أجنحتها، مستعينة في كثير من الأحيان بخبرة الشركات الجزائرية المتخصصة في هذا المجال. وقد بدا لافتًا أن هذه المؤسسات لا تكتفي بعرض منتجاتها، بل تسعى لإبراز حضورها المؤسسي والسياسي، مثل جناح البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير “أفركسيمبنك” الذي اختار مساحة مركزية واسعة، ليكون بمثابة همزة وصل بين مختلف الشركات والعارضين. في المقابل، استقطب جناح منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية “زليكاف” اهتماما خاصا، باعتباره عنوانا لمشروع اندماج اقتصادي طال انتظاره. أما على المستوى الجزائري، فقد سارعت المؤسسات الوطنية إلى تجهيز أجنحتها بتقنيات حديثة وعروض مبتكرة، حرصًا على أن تعكس صورة بلد يسعى إلى الريادة. التجربة السابقة، حين حصدت الجزائر جوائز “أفضل جناح” و”أفضل جناح مبتكر” في نسختي ديربان والقاهرة، دفعت العارضين الجزائريين إلى رفع سقف التوقعات. هذه المشاركة الوطنية المكثفة تهدف إلى تثبيت الجزائر كـ”منصة اقتصادية إفريقية” تنفتح على شركاء جدد وتوسع مجالها التجاري. في هذا السياق، يمكن القول إن الروتوشات الأخيرة تمتد لتشمل الترتيبات الدبلوماسية والاقتصادية التي ستجعل من المعرض منصة حقيقية للتلاقي. وصول الوفود، تجهيز الأجنحة، وتنسيق اللقاءات الثنائية كلها مؤشرات على أن الجزائر تستعد لاحتضان حدث يتجاوز الحدود الوطنية ليكون علامة فارقة في مسار التعاون الإفريقي. وهنا يبرز البعد التكميلي بين الاستعدادات الميدانية في قصر المعارض والديناميكية السياسية والاقتصادية التي ترافقها.
صورة الجزائر على موعد جديد
ومع اقتراب لحظة الافتتاح، تتجه الأنظار إلى الجزائر كمستضيف لمعرض ضخم، وكبلد يسعى إلى رسم صورة جديدة عن نفسه في الساحة الإفريقية والدولية. فالتحضيرات المكثفة والروتوشات الأخيرة رسالة بأن الجزائر مستعدة لاحتضان مواعيد كبرى بمعايير عالمية. هذه الصورة تتجاوز الجوانب التنظيمية، لتجسد “إرادة سياسية” في أن تكون الجزائر لاعبا محوريا في مستقبل التجارة البينية الإفريقية. الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية تمثل فرصة سانحة لإبراز التحولات التي تشهدها البلاد في السنوات الأخيرة. فنجاح هذا الحدث سيُقرأ خارجيا كدليل على قدرة الجزائر على “التسيير المحكم” و”الانفتاح المدروس”، بينما داخليا سيُعزز ثقة المواطنين في أن بلدهم قادر على مجاراة كبريات العواصم الإفريقية في التنظيم والجاهزية. وبذلك تتحول الروتوشات الأخيرة إلى ما يشبه امتحانا مصغرا لصورة الجزائر في مرآة القارة. كما أن هذا الحدث، الذي يجمع أكثر من 2000 عارض ووفودا من 140 دولة، يُتيح للجزائر فرصة لتسويق نفسها كـ”جسر للتواصل بين إفريقيا والعالم”. إنها لحظة لإبراز الوجه الجديد للجزائر، وجه يتسم بالحركية والانفتاح والقدرة على جمع الشركاء في فضاء واحد. وفي هذا السياق، فإن التفاصيل الصغيرة التي جرى الاهتمام بها خلال الأيام الأخيرة، تصبح جزءا من معادلة أكبر: كيف تُقدّم الجزائر نفسها كوجهة آمنة واحترافية للأعمال.