الإحصاء الفلاحي.. خطوة محورية نحو أمن غذائي مستدام

الرئيس تبون يرسم ملامح ثورة إحصائية في القطاع الفلاحي من التشخيص الدقيق إلى السيادة الغذائية

الرئيس تبون يرسم ملامح ثورة إحصائية في القطاع الفلاحي من التشخيص الدقيق إلى السيادة الغذائية

جاءت مخرجات اجتماع مجلس الوزراء الأخير بقيادة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لتؤكد من جديد أن قطاع الفلاحة لم يعد يُنظر إليه كمجرد نشاط اقتصادي تقليدي، بل كمجال استراتيجي بالغ الحساسية، يمسّ سيادة البلاد واستقرارها المستقبلي، خاصة في ظل الاضطرابات الإقليمية والدولية التي تمس أمن الغذاء والموارد.

 

الإحصاء الفلاحي.. من إجراء إداري إلى أداة سيادية

في العادة، ينظر إلى الإحصاء كأداة تنظيمية داخلية، لكنه في التوجه الرئاسي الجديد تحوّل إلى سلاح سيادي يمكن الدولة من إعادة رسم خريطة الفلاحة الوطنية بدقة متناهية. فالرئيس لم يطالب فقط بإجراء إحصاء عام، بل دعا إلى “تدقيق شامل” يشمل كل فروع الإنتاج، من المزروعات، إلى رؤوس المواشي، إلى المساحات المسقية، وصولا إلى عدد الأشجار المثمرة بأنواعها وتوزيعها الجغرافي. هذا يعكس قناعة راسخة بأن القرار الناجع يبدأ من المعلومة الدقيقة، أي أن نجاح أي سياسة فلاحية يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى صحة البيانات الإحصائية التي تُبنى عليها.

 

إصلاح هيكلي صامت..

ما يبدو مجرد توجيه إداري قد يكون في العمق مقدمة لإصلاح هيكلي صامت في قطاع الفلاحة، يعيد ضبط أدوات المتابعة والمراقبة، ويقلّص من الفجوة بين ما يصرح به مركزيا وما هو موجود فعليا على الأرض. إن إشراف رئيس الجمهورية المباشر على تفاصيل تقنية، مثل عدد رؤوس المواشي أو نسبة تقدم المساحات المسقية، يحمل في طياته رسالة مزدوجة الأولى هي الإشراف السياسي الصارم، والثانية هي فقدان الثقة ولو جزئيا في المعطيات المتداولة حاليا، ما يستدعي مراجعة شاملة لمسارات جمع وتحيين المعلومات.

 

الفلاحة كرافعة للسيادة الوطنية

وربط الرئيس تبون الإحصاء الفلاحي بالأمن الغذائي لم يكن صدفة، بل هو تعبير عن رؤية استراتيجية ترى أن سيادة الجزائر على قرارها الاقتصادي تمر حتماً عبر الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وتقليص التبعية للاستيراد، خاصة في مواد أساسية. وقد أثبتت الأزمات العالمية الأخيرة من جائحة كوفيد-19 إلى الحرب في أوكرانيا أن الدول التي لم تحصن نفسها غذائيا دفعت ثمنا باهظا على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وبالتالي، تسعى الجزائر من خلال هذه الخطوة إلى تفادي السيناريوهات الحرجة، عبر التخطيط الاستباقي والتشخيص الواقعي.

 

الفلاحة الرقمية.. التحدي القادم

كما تطرح دعوة الرئيس إلى عصرنة الفلاحة ضمنيا ضرورة رقمنة القطاع، ليس فقط في مراحل الإنتاج، بل أيضًا في جمع المعطيات وتحليلها. فإحصاء فلاحي شامل في بلد بحجم الجزائر يتطلب بنية معلوماتية قوية، وربما منصة رقمية وطنية تُدمج فيها بيانات الولايات بشكل فوري ودقيق، مما يسمح باتخاذ قرارات مرنة واستباقية في حالات الطوارئ أو تقلبات السوق.

 

من الفلاحة التقليدية إلى اقتصاد فلاحي معولم..

كما حملت توجيهات الرئيس أيضا بعدا اقتصاديا عميقا، يتمثل في تحويل الفلاحة من قطاع معيشي إلى رافعة تصديرية. فبمعرفة دقيقة للإنتاج وأنواعه وأماكن تواجده، يمكن توجيه الفائض نحو الأسواق الدولية، خاصة في ظل الطلب العالمي المتزايد على منتجات كالتمور والزيتون والحمضيات. كما يفتح المجال أمام شراكات دولية تقوم على معطيات حقيقية، لا على تقديرات أو بيانات مجتزأة، مما يمنح الجزائر موقع تفاوض أقوى في مجال تصدير الغذاء.

 

رؤية استراتيجية بأدوات علمية

إن دعوة رئيس الجمهورية إلى إجراء إحصاء فلاحي دقيق ليست مجرد إجراء روتيني، بل هي تجسيد لرؤية استراتيجية شاملة تستهدف إلى تعزيز السيادة الغذائية للبلاد، عصرنة منظومة القرار الفلاحي،تمكين الدولة من التحكم في الخريطة الإنتاجية بدقة إلى جانب

تقليص الفاقد وضبط سلاسل التوزيع مع إدماج الفلاحة في المنظومة الاقتصادية كقطاع مولد للثروة.

 

وبهذا، فإن الجزائر تدخل مرحلة جديدة من الاستثمار في المعلومة، باعتبارها حجر الزاوية لكل تحول تنموي فعلي ومستدام.

إيمان عبروس