احتفلت الجزائر، أمس الأحد، بالذكرى الـ 66 لثورة أول نوفمبر المجيدة، الثورة التي ألهمت كل شعوب العالم ومنحت الفرصة لكل شاعر وكاتب التأمل في الصفحات المشرقة التي سجلها الشعب الجزائري خلال سبع سنوات ونصف من الحرب لتحرير وطنه من سلطة الاستعمار الفرنسي الغاشم.
تزامن الاحتفال بالذكرى الـ66 لاندلاع ثورة التحرير هذه السنة مع خطوة مهمة في بناء الجزائر الجديدة، وهي الاستفتاء على الدستور الذي وضع فيه الجزائريون أملهم وثقتهم في بناء الجزائر الجديدة التي حلموا بها وخرجوا من أجلها في حراك سلمي أبهروا به العالم كما فعل أجدادهم من قبل عندما عزموا أن تكون الجزائر مستقلة.
ثورة أول نوفمبر 1954 التحريرية، هي ثورة ضد سلطة استعمارية شرسة حكمت البلد بصورة مباشرة طوال قرن وربع القرن، وضد روح التشكيك التي زرعتها هذه السلطة الاستعمارية خلال هذه الفترة، والتي جعلت الشعب الجزائري يرى تاريخه الطويل الزاخر بالأمجاد والبطولات، شبحا وخيالاً أو بمثابة سراب.
حرب ضد طمس الذاكرة
عمل الجيش الفرنسي كل ما يقدر عليه من أجل أن ينسى الشعب الجزائري أصله وتاريخه، ويمحو كل أمجاد الجزائر الحضارية التي تمتد إلى غابر الأزمان.
وقد عانى الشعب الجزائري الكثير من الظلم والجور والقسوة والحرمان خلال الفترة الاستعمارية، وكان أخطر ما عاناه حالة التشكيك في أصله وتاريخه وفي شخصيته القومية لدرجة أن بعض الجزائريين تجرأوا على القول بأنه ليس هناك بلد اسمه الجزائر، ولا شعب اسمه الشعب الجزائري العربي المسلم، فدعوا إلى دمج هذه البلد وشعبها في المجتمع الفرنسي الأوروبي المسيحي.
الثورة تعيد الثقة للشعب
أعادت ثورة نوفمبر الثقة للمجتمع الجزائري في نفسه، وأكدت له أصالته التاريخية التي تمتد إلى أعماق التاريخ القديم، وعودة الثقة هذه هي الدعامة الأساسية للكفاح البطولي الذي خاضه الشعب الجزائري طوال سبع سنوات ونصف.
وقد تبدو للبعض هذه الثقة العائدة بسيطة أو ساذجة، ولكن أهميتها كانت بالغة، ولولاها لما تحمّل الشعب الجزائري تلك الأهوال التي تعجز الجبال عن تحملها، وهنا أمثلة حية اليوم لشعوب فقدت الثقة بنفسها ولم تستطع أن تفعل شيئا.
الثورة قلب الجزائر النابض
لقد كافح الشعب الجزائري، قبل ثورة 1954، سبعين عاما بالسلاح، ونصف قرن بالسياسة، فلم يحصل على طائل، بالرغم من الأصوات التي كانت تقول دائما بأن الجزائر قلب ميت وطائر مكسر الجناحين، معاق عن الحركة والسير.
ولكن ثورة نوفمبر هي التي دفعت هذه الشبهة، ونزعت هذا التشكيك، وأثبتت أن الجزائر لم تكن قلبا ميتا ولا طائرا مكسر الجناحين، بل هي قلب شاب ينبض بالحياة والحيوية والنشاط، وصقر لا تناله السهام والنبال، ولا تفلت منه فريسته مهما كانت طاغية أو شرسة.
وقد فهمت ثورة نوفمبر جيدا أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بها، وأن الحرية تؤخذ وتنتزع، ولا تهدى ولا تعطى أبدا، كما أنها درست التجارب الماضية لها وهي حصيلة سبعين عاماً من الكفاح المسلح، وخمسين عامًا من الكفاح السياسي، وأصرت على ألا تدخل المعركة إلا بجبهة قوية تمثل كل فئات وطوائف الشعب، تحميها من الإخفاق والمهالك، وبقيادة جماعية مخططة تجنبها المزالق الشخصية التي وقع فيها أجدادنا في القرن الماضي وتضمن لها النصر والنجاح.
توحيد الشعب ولمّ الشتات أعظم مكاسب الثورة
ليس من السهل توحيد الشعب في جبهة واحدة في بلد عشّش فيه الاستعمار، وكبّش بأنيابه ومخالبه عليه وعلى مقدراته طيلة قرن وربع القرن.
وتباينت آراء الكثير من زعمائه السياسيين حول المطالب الوطنية الواضحة للشعب الجزائري تباينا خطيرا وعميقا.
فالبعض يدعو إلى التجنيس والفرنسة والذوبان في المجتمع الفرنسي الأوروبي المسيحي، والبعض الآخر يدعو إلى تحقيق إصلاحات اجتماعية بسيطة لا تتعدى الشؤون الدينية والاقتصاد.
والبعض قبل بنتيجة التطور التاريخي، ببروز شخصية جزائرية ولكن في إطار الكيان الفرنسي وتحت علمه.
ولم يكن هناك إلا تيار واحد استقلالي برز مع ظهور هيئة نجم شمال إفريقيا، في بداية العشرينات، وتدرج في إطار حزب الشعب الجزائري قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدها حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. ولكن هذا التيار كان محاربًا من الجميع الاستعمار الفرنسي، وأذنابه داخل البلد.
وقد وصلت الخصومة بين هذه التيارات السياسية إلى درجة كبيرة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وفي مطلع الخمسينات بصورة أخص.
وامتدت الخلافات حتى إلى داخل التيار الاستقلالي نفسه حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي انشق على نفسه ودخل في دوامة من الصراع والسباب بين زعيمه الهرم، والأكثرية من شبابه المناضلين. هذه الخلافات جعلت الاستعمار يطمئن للوضع ويتفرج من بعيد على ساحة المعركة.
وكان فضل ثورة نوفمبر 1954 في توحيد هذا الشتات كبيرا، ويعد مكسبا وطنيا هائلا، وفي منتهى القداسة، بحيث أذابت الجميع في جبهة التحرير الوطني الأغلبية عن إيمان واقتناع، والأقلية بالخنجر والشاقور، وكان هذا إنجازا عظيما لثورة نوفمبر 1954.
الجزائر.. ترفع رأسها عاليا
وباندلاع ثورة نوفمبر المجيدة رفعت الجزائر رأسها عاليا، وأعطت درسا لكل الحكومات والشعوب بأن الحق يؤخذ ولا يعطى. وفي الوقت نفسه فإن هذه الثورة مفخرة لإفريقيا أيضا لأنها هي التي أعادت إليها الحياة والحيوية، وحفزتها على مسح غبار الغفلة والتخلف، ودفعتها إلى العمل من أجل التحرر الوطني وطرد المستعمرين الدخلاء.
لمياء بن دعاس