نيران الاحتلال الصهيوني تمتد إلى قلب قطر وسط "هوان عربي"

الدوحة تُقصف.. من التالي؟

الدوحة تُقصف.. من التالي؟
  • من بيانات الاستنكار إلى صمت العجز.. واقع عربي وإسلامي يزداد هوانا

  • هذا هو الثمن الحقيقي.. هرولة التطبيع تفتح الأبواب لاستباحة العواصم

  • تحذيرات الجزائر تتحقق.. والعدو يثبت أنه لا يؤتمن

في سابقة خطيرة تكشف حجم “التهور الصهيوني” وعمق “الهوان العربي”، امتدت نيران الاحتلال إلى قلب الدوحة، في محاولة فاشلة لاغتيال وفد حماس التفاوضي.

قصف مقرات سكنية في عاصمة عربية آمنة هو “إعلان وقح” بأن الكيان لم يعد يعترف بحدود ولا يحترم سيادة، مستفيدا من “تطبيع مجاني” ومن “صمت رسمي” لا يتجاوز عتبة بيانات الإدانة. وإذا كان استهداف غزة يُسوّق دائما بذريعة الأمن، فما الذي يبرر ضرب عاصمة خليجية مستقرة غير شعور الاحتلال بأن الأمة غارقة في “الضعف والشرذمة”، وأنه قادر على أن يضرب حيث يشاء ومتى يشاء، بلا رادع ولا حساب؟ القصف الصهيوني على العاصمة القطرية هو “رسالة سياسية” تحمل أبعادا عميقة، إذ استهدف فريق حماس التفاوضي لحظة انشغاله بمناقشة المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار. أراد الاحتلال أن يقول للعالم إن يده قادرة على الامتداد إلى أي مكان، وإنه لا يعبأ لا بالقانون الدولي ولا بحرمة السيادة الوطنية، بل يسعى لإثبات أن المفاوضات نفسها لا تحمي أصحابها من صواريخه. تبريرات نتنياهو بأن العملية “مبررة تماما” لأنها تستهدف قادة مسؤولين عن هجوم السابع من أكتوبر، تكشف حجم الاستهتار بالقوانين الدولية. فكيف يمكن اعتبار اغتيال سياسيين داخل دولة ذات سيادة، وفي سياق مفاوضات ترعاها قوى كبرى، مجرد “عمل مشروع”؟ إن هذا المنطق يقلب المعايير رأسا على عقب، ويعيد إلى الأذهان مقولة إن الكيان يرى نفسه فوق كل القوانين والأعراف. الرد القطري، وصف عبر وزارة الخارجية العملية بأنها “هجوم جبان” و”انتهاك صارخ للقانون الدولي”. لكن الرد السياسي والإعلامي، مهما كانت قوته، يظل عاجزاً عن مداواة جرح السيادة الذي خلفه صاروخ الاحتلال على أراضي الدوحة. لقد أرادت قطر أن تُظهر للعالم أن استهدافها هو مساس مباشر بأمن الخليج والمنطقة بأسرها. ومع إعلان حماس أن محاولة الاغتيال باءت بالفشل، فإن الرسالة الأهم لم تكن في عدد الضحايا أو حجم الخسائر، بل في كسر الخطوط الحمراء. “عاصمة دولة خليجية ذات سيادة تحت القصف” نقطة تحول خطيرة في مسار الصراع، إذ تُظهر أن الاحتلال بات يرى نفسه قادرا على نقل الحرب من غزة إلى أي مكان، دون أن يخشى عواقب دبلوماسية أو عسكرية. وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: إذا كانت الدوحة اليوم، فمن التالي غدا؟

 

هوان الأمة وصوت التنديد

المشهد المؤلم الذي تكرر بعد قصف الدوحة لم يكن جديدا: بيانات إدانة متشابهة، عبارات “نستنكر” و”نرفض” و”ندين”، لتبقى الشعوب العربية والإسلامية شاهدة على حجم العجز الذي يطبع مواقف دولها. لقد تحولت لغة الغضب إلى “قاموس محفوظ”، يستنسخ ذاته مع كل مجزرة في غزة، وكل اغتيال في بيروت، وكل قصف في دمشق، وصولا اليوم إلى قلب قطر. أمة كاملة تكتفي بأن تصرخ على الورق بينما تُنتهك سيادتها وتُستباح عواصمها. هذا الهوان هو نتيجة مسار طويل من الرضوخ والتنازل. حين يقصف الاحتلال أرضا عربية ولا يجد أمامه سوى بيانات متكررة بلا أثر عملي، فإنه يزداد يقينا بأن “الردع مات”، وأن أقصى ما سيواجهه هو موجة عابرة من الاستياء الإعلامي. وهكذا تتحول السيادة الوطنية إلى ورقة للتداول في المؤتمرات، بدل أن تكون خطا أحمر تُحشد له الجيوش. الخطير أن هذه البيانات لم تعد تُطمئن حتى الشعوب نفسها، التي باتت تقرأها ببرود، مدركة أن ما يُكتب لن يُترجم إلى أفعال. هنا تتجسد الأزمة الأخلاقية قبل السياسية: كيف لأمة أن ترى عواصمها تحت النار، ولا تجد من قياداتها سوى ترديد كلمات لا تغير شيئا؟ إن هذا العجز يعمق الهوة بين الشعوب وأنظمتها، ويفقد العرب والمسلمين مكانتهم في معادلة الردع الدولي. هوان الأمة” اليوم ليس في ضعف جيوشها بقدر ما يكمن في غياب الإرادة السياسية لاستعمال ما لديها من أوراق قوة: الاقتصاد، الطاقة، الموقع الجغرافي، وحتى الصوت الموحد في المحافل الدولية. كلها أوراق تُركت للغبار، بينما استأثر الاحتلال بمبادرة الفعل. لقد صار العرب مجرد متلقين للضربات، يكتفون بردود الفعل الكلامية، وكأنهم فقدوا القدرة على أن يكونوا طرفا فاعلا في تحديد مسار الأحداث.

 

ثمّن الهرولة نحو التطبيع

حين تُقصف الدوحة اليوم بلا رادع، فإن ذلك ليس إلا أحد ثمار “هرولة التطبيع” التي منحت الاحتلال غطاء سياسيا وأخلاقيا لمواصلة عدوانه. لقد قيل مرارا إن التطبيع سيجلب “السلام” و”الأمن” و”الازدهار”، لكنه لم يجلب سوى جرأة أكبر للكيان الصهيوني، الذي صار يرى في علاقاته المعلنة والمستترة مع بعض العواصم العربية ضوءا أخضر ليضرب من يشاء دون خشية من عزلة أو عقوبة. التطبيع كان رهنا لمصير الأمة كلها. فقد سمح الاحتلال لنفسه بتجاوز كل الخطوط الحمراء لأنه يعرف أن “بوابة التفاوض” قد فُتحت على مصراعيها، وأن عددا من الأنظمة مستعدة لتجاهل جرائمه مقابل مصالح ضيقة أو وعود واهية. وهكذا تحولت قضايا الأمة الكبرى إلى أوراق للمساومة، بينما بقي الفلسطيني وحده في الميدان، يواجه عدوا مدعوما بشرعية زائفة من بعض جيرانه. الاعتقاد بأن التطبيع سيؤدي إلى “تغيير سلوك الاحتلال” كان وهما كبيرا. فالكيان لم يتراجع عن حصاره لغزة، ولا عن مصادرة الأراضي في الضفة، ولا عن استهداف سوريا ولبنان، وها هو اليوم يتجرأ على اليمن وقطر وتونس. لقد برهنت الوقائع أن التطبيع لم يكن إلا مكافأة مجانية، منحته شعورا متزايداً بأنه “لا يُحاسب”، بل وأن بعض العواصم قد تبرر أو تتغاضى عن عدوانه مقابل استمرار مصالحها مع واشنطن وتل أبيب. إن ثمن هذه الهرولة لم يُدفع فقط من رصيد القضية الفلسطينية، بل من “هيبة الأمة” كلها. فمن يظن أن التطبيع يحميه من نيران الاحتلال عليه أن ينظر إلى ما جرى في الدوحة. فالكيان لا يرى فارقا بين مطبع وغير مطبع، ولا يتردد في استهداف أي عاصمة حين تقتضي مصالحه ذلك. التطبيع هنا لم يجلب “الأمان”، بل أسقط آخر أوراق الردع وأدخل المنطقة كلها في دائرة استباحة مفتوحة.

 

الحنين إلى صوت الجزائر

منذ سنوات، رفعت الجزائر صوتها عاليا في كل المحافل الدولية والإقليمية، مؤكدة أن “لا خير في التطبيع”، وأنه لا يمكن الوثوق بعدو اعتاد على نقض العهود ودهس القوانين. هذا الموقف كان قراءة استراتيجية عميقة لواقع المنطقة، تستند إلى قناعة أن الاحتلال لا يعرف لغة السلام، بل لا يفهم سوى منطق القوة والردع. غير أن هذا الصوت ظل معزولا في بحر من “الهرولة” و”الانشراخ”، وكأن الأمة آثرت تجاهل التحذير حتى وقعت الكارثة في الدوحة. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة صدقية الرؤية الجزائرية، حين توسعت رقعة العدوان لتطال عاصمة خليجية مستقرة، وتستهدف فريقا تفاوضيا يناقش مبادرات دولية لوقف الحرب. ما كانت الجزائر تحذر منه منذ سنوات وقع بالفعل: “تطبيع بلا حدود يقابله عدوان بلا سقف”. وهذا ما عبّرت عنه الخارجية الجزائرية بوضوح حين أدانت القصف الإسرائيلي على قطر، مؤكدة أن الاحتلال “لا يجنح للسلام” وأنه يجر المنطقة كلها إلى “دوامة لا متناهية من اللااستقرار”. الجزائر، بمواقفها الثابتة، لم تكتفِ بالتحذير، وطرحت بديلا واضحا: الوحدة العربية بدل الانقسام، التضامن بدل الاصطفاف خلف أجندات غريبة، والاستثمار في الموقف الجماعي بدل المساومات الفردية. لكن مع الأسف، لم تجد هذه الدعوة آذانا صاغية لدى كثير من العواصم العربية التي فضّلت الطريق الأسهل: التطبيع والانفتاح على الكيان، على حساب وحدة الصف العربي. اليوم، ومع سقوط الخطوط الحمراء، يبدو أن العودة إلى صوت الجزائر بات ضرورة وجودية. فاستهداف الدوحة كشف أن العواصم كلها باتت في مرمى النار، وأن الصمت أو الرهان على التفاوض لن يجلب إلا مزيدا من الخسائر والهوان. الجزائر كانت تقول: “عدو لا يؤتمن”، وها هو العدو يثبت بالدليل أن الثقة به كانت خطأً قاتلا. فهل تستيقظ الأمة أخيرا لتستمع إلى الصوت الذي طال تجاهله؟

 

إلى أين تتجه المنطقة؟

قصف الدوحة، مؤشر على مرحلة جديدة من التصعيد، حيث لم يعد الاحتلال يكتفي بميادين غزة أو الضفة أو حتى جبهات لبنان وسوريا، بل انتقل إلى استهداف عواصم عربية مستقرة. هذا التوسع في دائرة العدوان يعني أن المنطقة كلها دخلت “مرحلة اللايقين”، حيث لم يعد أحد في مأمن من جنون صهيوني متعطش للدمار، مدعوم بصمت دولي وعجز عربي. السيناريو الأخطر أن يتحول هذا السلوك إلى قاعدة جديدة: قصف خارج الجغرافيا الفلسطينية بذريعة “الأمن القومي الإسرائيلي”. عندها، لن تكون الدوحة الاستثناء، بل ربما بداية لسلسلة من الاعتداءات التي قد تطال أي عاصمة تُتهم بإيواء أو دعم قوى مقاومة. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن يتحول العالم العربي إلى “ساحة مستباحة”، لا فرق فيها بين مطبع ومعارض، الكل تحت التهديد نفسه. إن استمرار الصمت العربي يفتح الباب واسعا أمام الكيان ليتمادى أكثر، ويجعل المجتمع الدولي يتعامل مع هذه الجرائم وكأنها أمر واقع. وما لم تتحرك الدول العربية والإسلامية لفرض معادلة ردع سياسية أو اقتصادية أو حتى دبلوماسية، فإن المنطقة ماضية نحو مزيد من الانفجار. إن بيانات التنديد وحدها لا توقف صاروخا، ولا تحفظ سيادة، ولا تحمي شعوبا من غارات مباغتة. الخلاصة أن سؤال “من التالي؟” لم يعد مجرد عنوان صحفي، هو هاجس سياسي وأمني يلاحق كل عاصمة عربية. إذا كانت الدوحة قد استُهدفت اليوم، فإن الغد قد يحمل أسماء أخرى، ما لم تستفق الأمة لتعيد الاعتبار لوحدتها، وتستمع إلى الأصوات التي حذّرت من التطبيع والاستسلام. فالعدو الذي لا يجنح للسلام لن يتوقف عند قطر، وسيطرق أبواب الجميع، إلا إذا وُجدت إرادة عربية جماعية توقفه عند حدّه.

م. ع