اليوم الخامس يترجم رسائل الافتتاح إلى تفاهمات استراتيجية وصفقات ملموسة

الدبلوماسية الاقتصادية في أبهى صورها

الدبلوماسية الاقتصادية في أبهى صورها
  • اللقاءات الثنائية تكشف انتقال المعرض من الرمزية إلى التنفيذ

  • الوفود الوزارية تواصل تجسيد توجهات القادة في ملفات حساسة

  • عقود بمئات الملايين تعكس دور الجزائر كقاطرة للتكامل الإفريقي

في اليوم الخامس من معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر، بدا واضحا أن ما جرى في الافتتاح بحضور القادة لم يكن مجرد مشهد بروتوكولي عابر، وإنما “رسائل سياسية تحوّلت إلى واقع اقتصادي”؛ فالمفاوضات التي احتضنتها القاعات، والعقود التي وُقعت بقيم تفوق مئات الملايين من الدولارات، جسدت أن الدبلوماسية الاقتصادية قادرة على الاستمرار حتى بعد مغادرة الرؤساء.

لقد أثبتت الجزائر أن “الاقتصاد يمكن أن يكون أداة دبلوماسية فعّالة”، حيث انعكس الحضور الرفيع في الافتتاح على ديناميكية اليوم الخامس، ليحوّل شعارات التكامل الإفريقي إلى خطوات عملية تحمل أبعادًا سياسية بقدر ما تحمل منافع اقتصادية. إذا كان الافتتاح قد منح المعرض زخمه الرمزي من خلال حضور 11 قائدا بين رؤساء دول وحكومات ونواب رؤساء، فإن اليوم الخامس كشف أن ذلك الزخم تحول إلى أرضية تفاوضية حقيقية. حضور القادة في اليوم الأول بعث رسائل قوية حول الإرادة السياسية في دعم التكامل الاقتصادي الإفريقي، بينما جسدت اللقاءات الثنائية في اليوم الخامس كيف يمكن لهذه الرسائل أن تجد ترجمتها في الواقع من خلال اتفاقيات ملموسة. لقد بدا واضحا أن الجزائر استثمرت ذلك الحضور الرئاسي لتخلق أجواء من الثقة بين الوفود الإفريقية، وهو ما انعكس مباشرة في ديناميكية التفاوض. فبعد أن غادر الرؤساء، أخذ وزراؤهم وممثلوهم مهمة متابعة الملفات المطروحة، لينتقل المشهد من مجرد صور رمزية إلى نقاشات تقنية واقتصادية دقيقة. بهذا الشكل، ظهر المعرض كحلقة وصل بين مستوى القيادة العليا ومستوى التنفيذ العملي. هذا الانتقال من الرمزي إلى العملي منح الحدث طابعا فريدا، حيث أظهر أن ما جرى في الافتتاح لم يكن عرضا للاستهلاك الإعلامي، وإنما خطوة مدروسة لتهيئة المناخ لصفقات لاحقة. في اليوم الثالث والرابع الى الخامس، بدأت الثمار الأولى لهذا التمهيد السياسي تظهر في شكل عقود كبرى وتفاهمات بين شركات ومؤسسات. والأهم أن اليوم الخامس أكد أن الجزائر نجحت في تثبيت فكرة أن الدبلوماسية الاقتصادية لا تنتهي بانتهاء مراسم الاستقبال، بل تستمر وتتجدد مع كل لقاء ثنائي أو صفقة موقعة. وهنا تتجلى قوة الجزائر في تحويل الرمزية السياسية لحضور القادة إلى ممارسة اقتصادية ملموسة تجعل من المعرض منصة عملية لصناعة التكامل الإفريقي.

 

اللقاءات الثنائية.. محركات الدبلوماسية الاقتصادية

في اليوم الخامس، برزت اللقاءات الثنائية كأحد أهم محرّكات الديناميكية الدبلوماسية التي أطلقها المعرض منذ افتتاحه. فقد تحوّلت أروقة قصر المعارض إلى فضاءات موازية لوزارات خارجية مصغّرة، حيث جلس وزراء ومسؤولون جزائريون مع نظرائهم من موريتانيا، جنوب إفريقيا، الصومال ودول أخرى، لترجمة التوجهات السياسية العليا إلى تفاهمات اقتصادية واقعية. هذه اللقاءات كانت تفاوضا مباشرا حول قطاعات محددة من الصحة والطاقة إلى البنية التحتية والخدمات، وهو ما أعطاها وزنا استراتيجيا يفوق قيمتها التجارية.

 

أحد أبرز نتائج هذه اللقاءات تجسد في توقيع عقود ضخمة تجاوزت قيمتها 300 مليون دولار، موزعة بين قطاعات حيوية: عقد بـ180 مليون دولار لتوريد السكر المكرر، 51 مليون دولار لتزويد السوق الليبية بالإسمنت من طرف مجمع “سواكري”، واتفاقيات سنوية بقيمة 80 مليون دولار بين “كوندور” وشركات إفريقية متعددة. هذه الصفقات عكست كيف يمكن أن يكون الاقتصاد أداة عملية لتكريس الثقة السياسية، وحوّلت النقاشات الثنائية إلى شراكات طويلة الأمد. ما ميّز هذه اللقاءات هو تنوعها؛ فهي لم تقتصر على بلد أو قطاع بعينه، بل شملت مجموعة واسعة من الشركاء الأفارقة، ما يعكس رغبة الجزائر في رسم خارطة تحالفات اقتصادية متعددة المحاور. وبذلك، تحولت اللقاءات الثنائية إلى خيوط متشابكة تنسج شبكة تعاون إفريقي متكامل، تتقاطع فيها مصالح متعاملين اقتصاديين مع أهداف سياسية كبرى تخص التكامل القاري. لقد أكدت هذه اللقاءات، أن الجزائر لم تكتفِ بدور المنظم أو المستضيف، بل لعبت دور الوسيط والمحفّز، حيث هيأت المناخ للتفاوض وقدّمت منصتها لتكون نقطة التقاء لمصالح متفرقة. وهنا يبرز جوهر الدبلوماسية الاقتصادية: تحويل اللقاءات الثنائية من مجرد لقاءات مجاملة إلى محركات فعلية لعقود استراتيجية، في انسجام تام مع الرؤية التي أطلقها القادة في اليوم الأول للمعرض.

 

الوفود الوزارية.. الامتداد الطبيعي للحضور الرئاسي

بعد أن غادر القادة الأفارقة الجزائر عقب حفل الافتتاح، لم يتراجع زخم المعرض ولم يفقد بريقه، إذ تولت الوفود الوزارية مهام متابعة الملفات وتنفيذ التوجيهات السياسية التي حملها الحضور الرئاسي. اليوم الخامس جسّد بوضوح هذا الامتداد، حيث ظهرت الوفود الوزارية كأذرع تنفيذية للرؤساء، تعمل على تحويل الشعارات والخطابات إلى اتفاقيات ملموسة ومشاريع اقتصادية مشتركة. وبذلك تحولت القاعات إلى ورشات نقاش حقيقية، تم فيها تفصيل الأولويات الوطنية والإقليمية على طاولة المفاوضات. هذا الامتداد الوزاري أعطى للمعرض بعدا عمليا أكبر، إذ أثبت أن حضور القادة كان إشارة انطلاق لمسار طويل من التفاهمات والمتابعات. الوزارات المشاركة لم تكتف بعرض منتجات أو توقيع بروتوكولات، وانخرطت في مناقشة ملفات عميقة تتعلق بالاستثمارات المشتركة، نقل التكنولوجيا، وبناء سلاسل إمداد إفريقية متكاملة. هنا يتضح أن الوفود كانت بمثابة صلة وصل بين الطموح السياسي والإنجاز الميداني. كما أن هذه الوفود حملت معها وزنا سياسيا لا يقل عن وزن الرؤساء، فهي تمثل دولها وتفاوض باسمها، وتملك السلطة في فتح قنوات تعاون جديدة أو تعزيز القنوات القائمة. لذا فإن اللقاءات الوزارية في اليوم الخامس كانت استمرار فعلي للدبلوماسية الاقتصادية التي أطلقها القادة في الافتتاح، وهو ما جعل هذا اليوم محطة انتقال من الرمزية إلى التنفيذ. لقد أظهرت الوفود الوزارية أن الدبلوماسية الاقتصادية لا تنحصر في القمم الكبرى ولا في حضور الرؤساء، بل تمتد إلى العمل اليومي الذي يقوم به الوزراء والمتخصصون. هذا الامتداد هو ما جعل اليوم الخامس من المعرض حاسما في تثبيت صورة الجزائر كمنصة جاذبة وموثوقة، قادرة على احتضان المفاوضات الاقتصادية رفيعة المستوى وتحويلها إلى نتائج ملموسة تخدم مشروع التكامل الإفريقي.

 

الاقتصاد في خدمة الدبلوماسية

اليوم الخامس من المعرض، أبرز أن الاقتصاد تحول إلى لغة دبلوماسية تعبر بها الجزائر عن مكانتها الإقليمية وتوظفها لترسيخ دورها القيادي في إفريقيا. العقود التي وُقعت في مجالات السكر والإسمنت والإلكترونيات، والتي تجاوزت قيمتها 300 مليون دولار، لم تكن مجرد معاملات تجارية، وإنما رسائل سياسية واضحة تقول إن التعاون الإفريقي قادر على بناء بدائل محلية وتقليص التبعية للأسواق الخارجية. بهذه الطريقة، أصبح الاقتصاد وسيلة لإعادة صياغة التوازنات الدبلوماسية في القارة. هذا التوظيف الذكي للاقتصاد، سمح للجزائر بإظهار قوتها الناعمة، فهي لم تفرض خطابا سياسيا مباشرا، بل قدّمت نفسها كوسيط اقتصادي قادر على جمع الشركاء حول طاولة واحدة. في قاعات المعرض، جلس ممثلو دول تعاني أحيانًا من تباينات سياسية، لكنهم وجدوا في المنصة الجزائرية مجالا للتعاون التجاري، ما جعل الاقتصاد جسرا لتقريب المواقف وتخفيف التوترات. وهذا هو جوهر الدبلوماسية الاقتصادية التي تجمع ما تفرقه السياسة. كما أن التركيز على قطاعات استراتيجية مثل الدواء والطاقة والبنية التحتية أضفى بعدا إضافيا على هذه الدبلوماسية. فالجزائر تعلم أن هذه القطاعات لا تُختزل في منتجات قابلة للتصدير، بل ترتبط مباشرة بمسائل السيادة الوطنية والأمن المجتمعي. ومن خلال استهدافها، أوصلت رسالة مفادها أن التكامل الاقتصادي الإفريقي ضرورة سياسية لضمان الاستقرار والتنمية. لقد برهن اليوم الخامس أن الاقتصاد، عندما يُستثمر في سياق دبلوماسي، يتحول إلى أداة لإعادة بناء الثقة بين الدول وإلى ورقة قوة تعزز مكانة الجزائر كقاطرة إقليمية. بهذا المعنى، أصبح المعرض مختبرًا عمليًا لدبلوماسية اقتصادية تمارس بأدوات السوق، لكنها تحمل في عمقها دلالات سياسية لا تقل أهمية عن أي خطاب رسمي.

 

رمزية مستمرة ورسائل أبعد من الاقتصاد

الحضور الرمزي للقادة الأفارقة الذين شاركوا في الافتتاح ظل حاضرًا بقوة في اليوم الخامس، وكأن كلماتهم ومواقفهم ما زالت تؤطر مسار النقاشات وتوجّه مسار العقود. كل اتفاقية وُقعت، وكل لقاء ثنائي عُقد، كان يحمل في خلفيته صدى رسائلهم حول “الاندماج الإفريقي ووحدة المصير الاقتصادي”، لتتحول الدبلوماسية الاقتصادية إلى خط ممتد من صور الافتتاح حتى تفاصيل اليوميات العملية للمعرض. الرمزية هنا تتجسد في الثقة التي أبداها المتعاملون الاقتصاديون والوفود الوزارية في جدية المشروع. فالحضور الرئاسي منح الحدث شرعية سياسية قوية، واليوم الخامس برهن أن هذه الشرعية لم تكن للاستهلاك الإعلامي، بل لتعبيد الطريق أمام خطوات عملية في مجالات التجارة والاستثمار. هذا الامتداد بين الرمزي والعملي أضفى على المعرض بعدًا غير مسبوق. كما أن الرسائل التي حملها اليوم الخامس تجاوزت حدود الاقتصاد المباشر لتطال أبعادًا أوسع. فالتعاون في قطاعات مثل الطاقات والدواء والبنية التحتية يعكس إدراكًا جماعيًا بأن التكامل الاقتصادي هو السبيل لتعزيز السيادة السياسية وتقوية الموقف الإفريقي في مواجهة اختلالات النظام التجاري الدولي. بمعنى آخر، الاقتصاد في الجزائر لم يُطرح كملف تقني بحت، بل كأداة استراتيجية لإعادة تشكيل موازين القوة. وهكذا، يمكن القول إن اليوم الخامس جسّد “استمرارية الرمزية السياسية في صورة إنجازات اقتصادية”. لقد برهنت الجزائر من خلال هذا التداخل بين الرمزي والعملي أنها ليست مجرد مستضيفة، بل صانعة لفضاء يدمج الاقتصاد بالدبلوماسية ويوحد الأفارقة حول طموح مشترك. رسائل هذا اليوم تجاوزت القاعات إلى العالم بأسره، لتعلن أن إفريقيا الجديدة تبني وحدتها بالاقتصاد بقدر ما تبنيها بالسياسة.