أنوار من جامع الجزائر

الحَجُّ في الِإسْلَامِ مَدْرسَةٌ – الجزء الثاني والأخير-

الحَجُّ في الِإسْلَامِ مَدْرسَةٌ – الجزء الثاني والأخير-

فَالحَجُّ فِي الِإسْلَامِ مَدْرسَةٌ تَتَهَذَّبُ فِيهَا الأَخْلَاقُ وَتَزْكُو فِيها النُّفُوسُ، وَتَجْتَمعُ فِيه المَقَاصدُ التَّرْبَوِيَّةُ التِي اشتمَلَتْ عَلَيْها العِبَادَاتُ الأُخْرَى، ففِيه الصَّبْرُ وَالتَّحَمّلُ الذِي يَقتَضِيه الصِيامُ، وفِيه الِاستِقامةُ والانْضِبَاطُ الذِي تَقْتَضِيه الصَّلَاةُ، وَفِيه الِإنْفَاقُ وَالجُودُ الذِي تَقْتضِيه الزَّكَاةُ، وَفِيه مُفَارَقَةُ الأَهْلِ وَالأَمْوَالِ الذِي يَقْتَضِيه الجِهَادُ وَالهِجْرَةُ فِي سَبِيل اللهِ، لِهذَا اقْتَضَى زَاداً فَوْقَ مَا أَلِفَ النَّاسُ التَّزَوُّدَ بِهِ لِأَسْفَارِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: “وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ اَ۬لزَّادِ اِ۬لتَّقْو۪يٰۖ وَاتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِے اِ۬لَالْبَٰبِۖ “؛ وَالتَّقْوَى هِيَ الانضباط والاستقامة؛ وهو ما يتطلبه الحجّ المبرور فقد ورد ذكرها في سياق التوجيهات الإلهية للحاجّ قال تعالى: “اِ۬لْحَجُّ أَشْهُرٞ مَّعْلُومَٰتٞۖ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ اَ۬لْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِے اِ۬لْحَجِّۖ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ يَعْلَمْهُ اُ۬للَّهُۖ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ اَ۬لزَّادِ اِ۬لتَّقْو۪يٰۖ وَاتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِے اِ۬لَالْبَٰبِۖ ” وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم‘مَا يَتَرَتَّب عَلَى هَذَا الانضبَاط وَالالتزَام فيمَا رَوَاه البخَاري عَن أَبي هرَيرَة رصي اله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ ‘ يَقولُ: مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ”. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الجَزَاءَ الجَزِيلَ عَلَى هَذَا الانضباط الأَخلَاقيّ وَالتّحَكّمِ في نَوَازع النَّفس في رحلَة مَليئَةٍ بالمَشَاقِّ وَالتَّكَاليف يَتَضَمَّن دروساً بَليغَةً من دروس الحجّ يَتَعَلَّمهَا الحَاجّ كَالصَّبرِ عَلىَ المَشَقَّة، وَالتَّوَاضعِ للخَلْقِ، وَالِإيثَارِ، وَحُسْن الخُلُقِ مَعَ النَّاسِ عَلَى اختِلَافِ أَمْزِجَتِهِمْ، وَالتَّعَاوُنِ عَلىَ البِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَأَكْرِمْ بِذَلِكَ مِنْ تَزْكِيَةٍ يَنَالُهَا العَبْدُ بَعْدَ أَنْ يَنَالَ الأَجْرَ وَالمَغْفِرَةَ، فَالحَجُّ المَبْرُورُ إِنَّماَ يَحْصُلُ بِتَحَقُّقِ آثَارِهِ وَمَقَاصِدِهِ الرُّوحَانِيّة والتربوية الآنفة. يستلهم الحاجُّ النبيهُ من أعمال الحجِّ ومناسكِه عبَراً وحِكماً جليلةً ههنا بعضها، ففي الطواف حول الكعبة المشرّفة يتعلّم الحاجّ مركزية التوحيد في حياته ، وأن لا ملجأ من الله إلاّ إليه، و أن لا خضوع ولا استسلام إلاّ لأمره، وأنّ ما بين يدي العبد وما خلفه متعلِّقٌ بالله متمثِّلاً قوله تعالى: “قُلِ اِنَّ صَلَاتِے وَنُسُكِے وَمَحْي۪آےْ وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ العالمين”. وفي السعي بين الصّفا والمروة يتعلّم أنّ الله من وراء سعيه في الدنيا وأنّ عليه التكلان فيما جلّ من الأمر ودقّ؛ فأينما توجّه العبدُ في الحياة فإنه سيجد الله قِبَله مصداقاً لقوله تعالى: “وَلِلهِ اِ۬لْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُۖ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اُ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞۖ”. وفي الوقوف بعرفةَ يتذكّر الحاجّ ذلك المشهد العظيم يوم يقوم الناس لربّ العالمين، لا تفرّق بينهم مراتب و لا ألقاب “إِلَّا مَنَ اَتَي اَ۬للَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖۖ “. فيعِي عظمةَ ما ينتظره من هولٍ وحسابٍ ، ولكي يكون الحجّ مبروراً مقبولا عند الله تعالى، على الحاجّ أن يلتزم بجملة من الوصايا والآداب:

أوّلها: إخلاص النيّة لله وتجريد القصد من شوائب الرياء والسمعة فالله تعالى لا يقبلُ العملَ إلاّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم كما قد سلف.

ثانياً: الحرصُ على تعلّمِ مناسكِ الحجّ وآدابِه، أدائِه على الوجه الذي شرعه الله موافقاً لهدي رسوله ‘.

ثالثاً: التحلّي بجميل الأخلاق وحميد الصفات، من صبرٍ وحلِمٍ وتواضعٍ وإيثارٍ، والبعدُ عن مجالس اللغو والرفث والجدال وسيّئ الفعال.

رابعاً: الانضباط واحترام التعليمات والنّظم السارية في سائر مراحل الحجّ، سواءٌ مع البعثات المشرفة على شؤون الحج أو في بلاد الحرمين بحسن التعاون وتيسير عمل الطواقم القائمة على تنظيمه.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر