وَمِمَّا سَبَقَتْ إِلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا مَنَحَتِ الْإِنْسَانَ ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، حَقَّ إِبْدَاءِ الرَّأْيِ وَالتَّعْبِيرِ، طَالَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَضِمْنَ إِطَارِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ. وَتَطْبِيقَاتُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” آلِ عِمْرَانَ: 159،وَقَدْ عَدَّدَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ مِنْ خِصَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَذَكَرَ مِنْهَا تَشَاوُرَهُمْ فِي الْأُمُورِ وَعَدَمَ اسْتِبْدَادِ بَعْضِهِمْ بِالرَّأْيِ عَنْ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” الشُّورَى: 38. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُحَدَّثُ بِالْوَحْيِ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ وَنِسَاءَهُ، وَيَنْزِلُ عِنْدَ آرَائِهِمْ، وَهَذَا مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ عَنْهُ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. إِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ قَدْ رَعَتْ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتَهُ وَحَفِظَتْهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِنَّ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ هَذَا ضَوَابِطَ تَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ الْكَرَامَةِ وَعَدَمَ الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِينَ:
أوّاها:الِالْتِزَامُ بِالْقَطْعِيَّاتِ وَالثَّوَابِتِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتَّخَذَ الْحُرِّيَّةُ ذَرِيعَةً لِمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، أَوِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى ثَوَابِتِ الدِّينِ، كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَإِسْقَاطِ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْمُقَدَّسَاتِ، أَوِ التَّرْوِيجِ لِلْفَاحِشَةِ وَالْإِلْحَادِ.
ثانياً:عدم التعارُضِ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّةِ: يَجِبُ أَنْ تَصُبَّ مُمَارَسَاتُ الْحُرِّيَّاتِ فِي مَصْلَحَةِ حِفْظِ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ. فَلَا حُرِّيَّةَ فِي هَدْمِ الدِّينِ وَنَقْضِ عُرَاهُ وَعَقَائِدِهِ، بِنَشْرِ الْإِلْحَادِ أَوِ الْأَفْكَارِ الْهَدَّامَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ. وَلَا حُرِّيَّةَ فِي شُيُوعِ الْعُدْوَانِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ، وَتَعْرِيضِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَلَا حُرِّيَّةَ فِي نَشْرِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، أَوِ الْأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ الَّتِي تُفْسِدُ الْعُقُولَ. وَلَيْسَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ فِي شَيْءٍ الدَّعْوَةُ إِلَى فَوْضَى الْعَلَاقَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَأَنْوَاعِ الْقَاذُورَاتِ اللَّاأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَهْدِمُ كِيَانَ الْأُسْرَةِ. وَلَا حُرِّيَّةَ فِي الْعُدْوَانِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِالنَّهْبِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الِاحْتِيَالِ وَالنَّصْبِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
ثالثاً:عَدَمُ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ: فَالْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَظِيمَةُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ” تَقْتَضِي عَدَمَ الْإِضْرَارِ أَوِ التَّعَارُضِ مَعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ، كَالنِّظَامِ الْعَامِّ وَالْأَمْنِ الْعَامِّ وَالْوَحْدَةِ الْوَطَنِيَّةِ.
الجزء الثاني من خطبة الجمعة من جامع الجزائر