أنوار من جامع الجزائر

الحج المبرور – الجزء الأول –

الحج المبرور – الجزء الأول –

لا تَزَال قَوَافِلُ الْحَجِيجِ تَتَوَافَدُ عَلَى بيتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ممّنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُم بِزِيَارَةِ حَرَمِهِ الطَّاهِرِ، فَهَنِيئاً هَنِيئاً لِمَن وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنُّزُول فِي حَرَمه الْآمِن، وَوُطِئَت قَدَّمَاه العتباتِ المقدّسَةَ؛ هُنَالِك حَيْثُ طَافَ الْأَنْبِيَاءُ؛ هُنَالِكَ حَيْثُ طَافَ سَيِّدُ الْخَلْقِ ‘، هُنَالكَ حيثُ أوّلُ بيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذِے بِبَكَّةَ مُبَٰرَكاٗ وَهُديٗ لِّلْعَٰلَمِينَ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞۖ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناٗۖ وَلِلهِ عَلَي اَ۬لنَّاسِ حَجُّ اُ۬لْبَيْتِ مَنِ اِ۪سْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاٗۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اَ۬للَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اِ۬لْعَٰلَمِينَۖ “. إِنَّهَا رِحْلةُ العُمرِ، لَيْسَتْ كَسَائِرِ الرَّحَلَاتِ؛ بَلْ هِيَ فِرَارٌ إِلَى اللهِ ï بِالرّوحِ وَالجَسَدِ. أيُّها السّادةُ الأعزَّاء: الحجُّ هُوَ خامِسُ أركانِ الِإسلامِ، بِهِ كمُلَ الدِّينُ وتمّتْ بِهِ النِّعْمَةُ، فيِ أَطْهَرِ بُقْعَةٍ فيِ الأَرْضِ؛ فيِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ؛ التِي فِيهَا تَنْزِلُ الرَّحَمَاتُ وَبِهَا تَحُلُّ البَرَكَاتُ، وَفِيهَا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ وَتُغْفَرُ الزّلاتُ، شِعَارُهُ: لبّيكَ اللّهُمَّ لبّيكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لبَّيكَ إِنَّ الَحْمَد وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ لَا شَرِيكَ لكَ. والحجُّ من أعظمِ فَرَائض الإسلَام وَشَعَائره قَالَ تَعَالى: “وَلِلهِ عَلَي اَ۬لنَّاسِ حَجُّ اُ۬لْبَيْتِ مَنِ اِ۪سْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاٗۖ” وَفي الصَّحيح عَن أَبي هرَيرةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ: إيمَانٌ باللَّهِ وَرَسولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ”. هَذَا الوَعدُ النَّبَوِيُّ الكَريمُ هُوَ مَا يَشحَذُ الهِمَمَ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ نُفُوسُ المُؤمِنِينَ المُشتَاقِينَ لِرَحمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَتَحَمَّلُ الحَاجُّ لِأَجْلِهِ مَشَاقَّ الحَجِّ بِرضىً وَتَسلِيمٍ. أَيُّهَا الِإخوَةُ الأَحبَابُ: فِي هذِه الرِّحلةِ المقدّسةِ يتجرّد الحاجُّ مِن كلِّ مَظَاهرِ العَظَمَةِ الكَاذبَةِ؛ وَيَلبَسُ لبَاسَ التَّوَاضُعِ الذِي يَتَسَاوَى فِيهِ الغَنيُّ مَعَ الفقِيرِ، والكبِيرُ مع الصغِيرِ، والأمِيرُ مع الخفيرِ، إنّه لِباس الِإحرامِ وإِعلان الدخولِ فِي النُّسُكِ. والتجرّد مِن اللِّباسِ والزِّينةِ فِي الحجِّ لا بُدَّ أن يصاحِبَه -أو يسبِقَه- تجرُّدُ القلبِ مِن الأغيارِ والعلائِقِ الدنيوِية، ونيّةُ إخلاصِ العبوديةِ لله تعالى، وهو سرُّ قَبول الأعمالِ في الإسلام؛ وإنَّ هذا -لعمر الحقّ- لهو أساس الحجِّ المبرورِ ،قَالَ تَعَالَى: “قُلِ اِنِّيَ أُمِرْتُ أَنَ اَعْبُدَ اَ۬للَّهَ مُخْلِصاٗ لَّهُ اُ۬لدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنَ اَكُونَ أَوَّلَ اَ۬لْمُسْلِمِينَۖ “، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: “العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ”. فما دام الحجّ فراراً إلى الله تعالى فلا بدّ حينئذٍ أن يكونَ -أيضاً- فراراً من أوضارِ النفس وأمراضِها بالتبرُّؤِ مما سلفَ من كبائر الذنب وصغائره، وباطن الإثم وظاهره؛ و بالتوبة الصادقة النصوح، والتحلُّلِ من المظالمِ وردِّ الحقوق قبلَ الالتحاق بالبقاع الطاهرةِ، فيكونُ الدخولُ في حضرة العبودية، والإقبالُ على اللهِ في رحابِه، بطهارةِ الجَنانِ تعظيماً لربوبيته وعزّته وجَنَابه، فلا يليق بالعبد الصادق أن يباشر هذه الشعيرةَ العظيمةَ وقلبُه مُغشّىً بالضغائن والأحقادِ ، عادياً على حقوقِ الناس بغير حقٍّ، مُصِرّاً على طغيانه، أو متموّلاً في رحلته بمال حرامٍ ؛ فإنّ الله طيّب لا يقبلُ إلاّ طيباً كما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر