رسائل سياسية واقتصادية في زيارة جوزيف عون

الجزائر ولبنان: توافق ودعم.. وإرادة لبناء شراكة حقيقية

الجزائر ولبنان: توافق ودعم.. وإرادة لبناء شراكة حقيقية

في سياق إقليمي مضطرب، جاءت زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزيف عون، إلى الجزائر لتؤكد متانة العلاقات التاريخية بين البلدين، ولتعكس الإرادة السياسية المشتركة في بعث شراكة حقيقية تتجاوز الطابع البروتوكولي نحو تعاون استراتيجي شامل.

هذا اللقاء، الذي حظي بحفاوة رسمية بالغة، شكل مناسبة لصياغة رؤية سياسية متوازنة إزاء قضايا المنطقة، وتفعيل آليات التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد، الأمن، وإعادة الإعمار، بما يخدم مصالح الشعبين ويعزز مكانة الجزائر ولبنان كدولتين مؤثرتين في محيطهما العربي. جاء استقبال الرئيس اللبناني، جوزيف عون، في مطار هواري بومدين الدولي محمّلا بدلالات سياسية تتجاوز الطابع البروتوكولي المعتاد، حيث خصّه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، باستقبال رسمي رفيع المستوى، شارك فيه كبار المسؤولين في الدولة، يتقدمهم أعضاء من الحكومة وقادة الجيش. وقد استُقبل الضيف اللبناني على وقع النشيدين الوطنيين واستعراض تشكيلات من مختلف القوات المسلحة، في مشهد يؤكد عمق العلاقات الثنائية، ويبعث برسالة واضحة بأن الجزائر تنظر إلى هذه الزيارة كحدث استثنائي يليق بمكانة لبنان في وجدان الدولة الجزائرية. رمزية الاستقبال تجلّت أيضًا، في التفاصيل الدقيقة التي رافقت مراسم الاستقبال، أبرزها إطلاق 21 طلقة مدفعية، وهو تقليد نادر يُخصص في العرف الدبلوماسي للضيوف الذين يحظون بتقدير خاص. هذا التقدير يعكس موقف الجزائر من لبنان كشريك سياسي وتاريخي، ودولة تحتفظ معها الجزائر بذاكرة نضالية ومواقف تضامنية، خاصة في اللحظات الحرجة التي مر بها هذا البلد العربي الشقيق. الاستقبال الذي تكرر بمقر رئاسة الجمهورية، حيث أُقيمت مراسم رسمية أخرى تضمنت استعراض الحرس الجمهوري وأخذ صورة تذكارية أمام وسائل الإعلام، يُعبّر عن رغبة الجزائر في أن تمنح هذه الزيارة زخمًا إعلاميا ورسميا يُرسّخ صورتها كدولة حريصة على نسج علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف العربية، في وقت يشهد فيه العالم العربي انقسامات حادة وضغوطا خارجية متزايدة. فالإخراج السياسي للزيارة كان محسوبا بدقة ليُظهر الجزائر كطرف وازن ومبادر. هذه الرمزية السياسيةن لا تنفصل عن التوقيت الذي جاءت فيه الزيارة، حيث يواجه لبنان أزمات اقتصادية ومؤسساتية غير مسبوقة، بينما تُعيد الجزائر ضبط تموقعها الإقليمي والدولي كدولة محورية في المنطقة. وعليه، فإن الحفاوة التي أحاطت بالزيارة تمثل رسالة تضامن سياسي ومعنوي، تعيد الاعتبار للدبلوماسية العربية البينية، وتفتح الباب أمام شراكات تقوم على الدعم لا الإملاء، وعلى الاحترام لا التبعية.

 

تصريحات الرئيس تبون.. أجندة شراكة شاملة ورؤية عربية متوازنة

في كلمته المشتركة مع نظيره اللبناني، قدّم الرئيس عبد المجيد تبون تصورا واضحا لمستقبل العلاقات الجزائرية اللبنانية، يرتكز على إرساء شراكة فعلية تمتد إلى مشاريع ملموسة في الاقتصاد والسياسة والتعاون الإقليمي. تحدث الرئيس الجزائري بلغة صريحة ومباشرة، معتبرا الزيارة “خطوة بالغة الأهمية” في مسار علاقات البلدين، وفرصة استراتيجية لتعميق التعاون وتوسيعه. وفي معرض استعراضه للمحادثات التي جمعته بالرئيس اللبناني، وصف تبون اللقاء بـ”البناء والمثمر”، مشيرا إلى أنه شمل ملفات متعددة تتعلق بمستقبل التعاون بين البلدين. ولفت إلى أن التقييم الشامل الذي تم خلال هذه المباحثات أفضى إلى اتفاق الطرفين على الإسراع في عقد الدورة الأولى للجنة المشتركة الجزائرية-اللبنانية، التي يُنتظر أن تتحول إلى منصة عملية لتنفيذ برامج تعاون اقتصادي وتبادل استثماري. كما أشار إلى ضرورة تفعيل مجلس رجال الأعمال المشترك، باعتباره الجسر العملي الذي يربط بين الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية على أرض الواقع. في السياق ذاته، أبرز الرئيس تبون استعداد الجزائر للوقوف إلى جانب لبنان في كافة الظروف، مؤكدا “الالتزام الثابت والدائم بالتضامن مع الشعب اللبناني الشقيق”، مع الإشارة إلى أن هذا الدعم يشمل البعد الانساني وأيضا دعم الاستقرار السياسي ومساعدة لبنان على تجاوز التحديات الاقتصادية والمؤسساتية. ومن خلال هذا الخطاب، بدا جليا أن الجزائر تسعى لتكون شريكة وداعمة دون فرض وصاية، وهو ما ينسجم مع فلسفة الجزائر في التعاون جنوب-جنوب، القائم على التكافؤ لا التبعية. كما اتسعت تصريحات الرئيس الجزائري لتشمل أبعادا أوسع من الثنائية، حين تناول الوضع الإقليمي برمته، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد عبّر تبون عن قلقه الشديد إزاء الإبادة والتجويع الذي يتعرض له أهل غزة، رافضا محاولات تهجير سكان القطاع، ومشددا على أن ما يحدث هناك مأساة إنسانية وجريمة سياسية تتطلب موقفا عربيا حازما. وهنا، يتضح أن الجزائر لا تفصل بين دعمها للبنان ومواقفها الثابتة تجاه القضايا العربية، ما يمنح خطابها مصداقية متماسكة على مستوى السياسات الإقليمية. وما يزيد من أهمية هذه التصريحات، أنها جاءت في وقت تتعدد فيه الأزمات العربية وتتشابك الملفات، من سوريا إلى اليمن والسودان وليبيا. ورغم هذا التشظي، حافظ الرئيس تبون على نبرة جامعة، داعيا إلى تنسيق الجهود العربية والدولية لدعم هذه الدول وتمكينها من تجاوز أزماتها. في هذا الإطار، أكد حرصه على تفعيل آلية التشاور السياسي بين الجزائر ولبنان، لتكون منصة دائمة للتنسيق حول الملفات الحساسة. وعليه، فإن رؤية تبون تتجاوز المناسبات الظرفية لتؤسس لنمط دبلوماسي جديد يقوم على الشراكة السياسية، والتشاور المنتظم، والانخراط العملي في قضايا الأمن العربي المشترك.

 

مواقف الرئيس اللبناني.. إشادة بالدور الجزائري وتطلع إلى شراكة متوازنة

من جانبه، لم يخفِ الرئيس اللبناني جوزيف عون إعجابه بالمواقف الجزائرية المبدئية والثابتة، والتي ظلّت، على حد تعبيره، منحازة دوما لقضايا الأمة وداعمة للبنان في أحلك الظروف. وقد اختار عون أن يستهل تصريحاته بالإشادة بعمق العلاقات الجزائرية اللبنانية وتجذرها في التاريخ، معتبرا أنها تستند إلى “ركائز أخوية قوية” وتجسد مثالا حيّا للتضامن العربي في أبعاده السياسية والإنسانية. هذا التوصيف عبّر عن اعتراف رسمي بالدور النوعي الذي ما فتئت الجزائر تضطلع به في دعم استقرار لبنان واستقلالية قراره السياسي. الرئيس اللبناني لم يكتف بالإشادة الرمزية، وأرفقها بتأكيد عملي على وجود آفاق واعدة لتعزيز التعاون الثنائي في عدة قطاعات حيوية، على غرار الطاقة، الزراعة، التجارة، الصحة، السياحة، والتعليم. وتُظهر هذه القائمة الطموحة أن بيروت تنظر إلى الجزائر كحليف سياسي، وكشريك اقتصادي محتمل في مرحلة إعادة الإعمار والتعافي. وقد خص عون هذه النقطة بطلب مباشر للمساعدة في ترميم البنى التحتية التي دمرتها الاعتداءات والحروب، في إشارة واضحة إلى حاجة لبنان إلى دعم عربي صادق، بعيدا عن الشروط والضغوطات الدولية المعهودة. ولم يغفل الرئيس عون في كلمته، الدور الجزائري التاريخي في صياغة ملامح الاستقرار اللبناني، مذكّرا بإسهام الجزائر في اللجنة العربية العليا التي مهّدت لوثيقة الوفاق الوطني في الطائف. كما حيّا بالمناسبة، مواقف الجزائر الداعمة للبنان داخل مجلس الأمن والمحافل الدولية، مؤكدا أن الجزائر لم تتأخر يوما في نصرة لبنان كلما داهمته أزمة أو تعرض لعدوان. هذا الاستحضار لتاريخ المساندة، في سياق زيارة رسمية، يعيد الاعتبار إلى ذاكرة التضامن العربي التي كثيرا ما تم تجاهلها في علاقات عربية أخرى قامت على المصلحة البحتة. وفي سياق أكثر اتساعا، أكد الرئيس اللبناني تمسك بلاده بتعزيز التعاون العربي المشترك، خصوصا في الجانب الاقتصادي، داعيا إلى تكامل عربي يحفظ مكانة الدول العربية في عالم اليوم. وهنا يتقاطع موقفه بوضوح مع التصور الجزائري، خاصة حين شدد على أن تحقيق السلام العادل في المنطقة يمر حتما عبر حلّ القضية الفلسطينية، التي وصفها بـ”الممر الإلزامي” لأي استقرار إقليمي. هذا التلاقي في الرؤية بين الجزائر ولبنان يعكس تقاربا أعمق من مجرد توافق سياسي، ويلامس انخراطا مشتركا في الدفاع عن المبادئ والسيادة والحق العربي.

 

تقاطع المواقف حول القضايا الإقليمية.. وحدة رؤية في زمن التصدعات

وبالإضافة إلى القضية الفلسطينية، التي شكلت محورا مشتركا في تصريحات الرئيسين. جاءت المحادثات الجزائرية-اللبنانية لتعكس انسجاما لافتا في الرؤى السياسية تجاه أبرز القضايا الإقليمية والدولية، إذ امتدت إلى الملف السوري، حيث عبّر الرئيس تبون عن “انشغاله العميق” بالتطورات الأخيرة، محذرا من الاعتداءات والتدخلات الأجنبية ومحاولات المساس بوحدة سوريا واستقلالها. وهو ما ينسجم مع الموقف اللبناني الرسمي، الذي كان دوما يرفض المساس بسيادة الجارة سوريا أو تحويلها إلى ساحة صراع إقليمي ودولي. ويبدو أن الجزائر ولبنان يتقاسمان قلقا مشتركا من تدهور الأوضاع في سوريا وانعكاساته الأمنية والإنسانية على المنطقة، لا سيما مع تصاعد التهديدات وتضارب الأجندات الخارجية. كما امتد النقاش بين الرئيسين إلى الأزمات المفتوحة في ليبيا والسودان واليمن، وهي دول تشكل اليوم بؤرا لأزمات ممتدة أنهكت شعوبها وهددت استقرار محيطها. في هذا السياق، شدد الرئيس تبون على “أهمية تضافر الجهود العربية والدولية من أجل دعم ومرافقة هذه البلدان لتجاوز محنها”، وهي دعوة تعكس رؤية الجزائر المتزنة التي تفضل الحلول السياسية على التدخلات العسكرية، وتدعو إلى الحوار بدل الاصطفاف. وهو منطق يتماشى مع المسار التاريخي للدبلوماسية الجزائرية التي ظلت تؤمن بالوساطة والحياد الإيجابي. الاتفاق على تفعيل آلية التشاور السياسي بين الجزائر ولبنان في ظل هذه القضايا المعقدة، يمثل محاولة لإعادة تشكيل فضاء عربي للتنسيق والتعاون خارج الأطر التقليدية التي غالبا ما تُهيمن عليها الاستقطابات. فالعالم العربي يشهد اليوم تراجعا في العمل الجماعي وتناميا في المصالح الضيقة، بينما تسعى الجزائر ولبنان، كل من موقعه، إلى الحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق العقلاني والمستقل، بعيدا عن الإملاءات الخارجية. وبذلك، فإن المحادثات التي دارت بين الرئيسين عبرت عن تطابق نادر في المواقف، ووحدة في الرؤية تجاه قضايا مصيرية. وهو تطابق يعطي للزيارة طابعا إقليميا، ويؤكد أن الجزائر ولبنان رغم اختلاف مواقعهما الجغرافية وحجم تحدياتهما، يتقاطعان في تبني نهج سياسي قائم على السيادة الوطنية، والدفاع عن القضايا العادلة، والعمل المشترك من أجل استقرار عربي حقيقي يعيد للمنطقة شيئا من توازنها المفقود.

 

من التضامن السياسي إلى التعاون العملي.. نحو شراكة اقتصادية متوازنة

كما لم تقتصر زيارة الرئيس اللبناني إلى الجزائر، على الجانب السياسي وحملت معها مؤشرات واضحة على وجود إرادة مشتركة للانتقال بالعلاقات الثنائية إلى مرحلة أكثر واقعية وفعالية، أساسها التعاون الاقتصادي والتكامل في المشاريع. وقد أكد الرئيس تبون في تصريحاته، أن الدورة الأولى للجنة المشتركة الجزائرية اللبنانية ستكون منطلقا جديدا نحو تعاون مثمر ومستدام، يدمج رجال الأعمال والمتعاملين الاقتصاديين من الجانبين. الرؤية الاقتصادية المشتركة ظهرت أيضا، في حديث الرئيس اللبناني، الذي عدد مجالات التعاون الممكنة، بدءا من الطاقة والزراعة، مرورا بالتجارة والصحة والتعليم، وصولا إلى السياحة والتكنولوجيا. هذه القطاعات تمثل حاجة حيوية للطرفين، فلبنان يعاني من أزمة اقتصادية عميقة تتطلب شركاء موثوقين، والجزائر، بدورها، تبحث عن توسيع أسواقها وتفعيل آليات التعاون جنوب-جنوب. والحديث عن “مساعدتنا في إعادة إعمار ما دمرته الاعتداءات”، كما قال عون، لا يخرج عن هذا الإطار، بل يؤكد إدراك بيروت لواقعية الجزائر وحيادها السياسي في وقت تعاني فيه لبنان من ضغط المحاور والاستقطابات. وفي هذا السياق، تُعد تجربة الجزائر في السنوات الأخيرة في دعم لبنان نموذجا على الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، فقد سبق للجزائر أن زودت لبنان بكميات معتبرة من الفيول لتشغيل محطات الطاقة، كما أرسلت مساعدات طبية وإنسانية بعد انفجار مرفأ بيروت سنة 2020، ووقفت إلى جانبه خلال أزمة كوفيد-19. هذه المبادرات تعكس توجها جزائريا ثابتا في نصرة الدول العربية في أوقات الأزمات، لكن بمرونة سياسية تراعي خصوصية كل بلد، دون التدخل في شؤونه أو فرض مسارات جاهزة عليه. أما من الناحية العملية، فإن تفعيل مجلس رجال الأعمال الجزائري-اللبناني، كما جاء في تصريحات الرئيس تبون، يمكن أن يشكل رافعة حقيقية لبناء شراكات قطاعية في مجالات الزراعة والصناعة الغذائية والخدمات، وهو ما تحتاجه لبنان بشدة في سياق محاولاته للنهوض الاقتصادي. كما أن استئناف الرحلات الجوية بين الجزائر وبيروت سنة 2023 شكل إشارة واضحة إلى رغبة الجزائر في تسهيل التبادلات التجارية والبشرية، وهو عامل محفز لتنشيط العلاقات على المدى المتوسط والبعيد، خاصة مع وجود جالية لبنانية فاعلة ومتعلمة يمكنها لعب دور الوسيط التنموي. كل هذه المؤشرات، إذا تم البناء عليها بآليات واضحة ومتابعة حقيقية، يمكن أن تنقل العلاقة الجزائرية-اللبنانية من دائرة التضامن السياسي التقليدي إلى فضاء التعاون العملي والمثمر. فالتاريخ المشترك والتقارب السياسي، يمثلان قاعدة صلبة، لكن التحديات الراهنة تفرض ترجمة هذا الرصيد إلى مشاريع إنتاجية، تحمي استقلال القرار الاقتصادي وتخلق فرصا تنموية مشتركة. ولعل هذه هي الرسالة الأعمق في زيارة الرئيس جوزيف عون إلى الجزائر: أن المرحلة المقبلة تستدعي تضامنا منتجًا يُبنى على الثقة والإرادة والاحترام المتبادل.