-
نضال مشترك وشراكة متجددة.. ورسائل سياسية واقتصادية
-
توافق تام في قضايا التحرر والسيادة
قدم رئيس زيمبابوي، إيمرسون منانغاغوا، إلى الجزائر محمّلا برسائل التاريخ المشترك وأحلام المستقبل الإفريقي، في زيارة رسمية امتدت ليومين، حملت في طيّاتها رمزية النضال المشترك ضد الاستعمار ومضامين سياسية واقتصادية تعكس توجها جديدا نحو بناء شراكة نوعية بين بلدين تجمعهما ذاكرة الثورة وتحديات الحاضر.
الزيارة كانت لحظة تقاطع فيها الوفاء مع الطموح، حيث أعلن الرئيسان عن توافق تام في الرؤى والمواقف تجاه قضايا التحرر والسيادة، ودشنا مرحلة جديدة من التعاون تشمل الاقتصاد، التعليم، الأمن، والدفاع عن صوت إفريقيا داخل النظام الدولي. منذ اللحظة الأولى للزيارة، طغى البعد الرمزي والتاريخي على اللقاء بين الجزائر وزيمبابوي، إذ لم يتردد الرئيس منانغاغوا في وصف الجزائر بـ”البلد الصديق المتجذر في التضامن والكفاح ضد الاستعمار”، في إشارة مباشرة إلى الدعم الذي قدمته الجزائر لحركات التحرر الإفريقية، ومنها كفاح شعب زيمبابوي من أجل الاستقلال. هذا البعد الثوري ظلّ يشكل العمود الفقري للعلاقات بين البلدين، وهو ما أكده الطرفان في تصريحات رسمية تعكس وفاء مشتركا لذاكرة نضالية موحّدة. لكنّ هذا التحالف الذي بُني على أسس التضامن الثوري لم يتوقف عند استذكار الماضي، وتحوّل خلال هذه الزيارة إلى قاعدة لبناء علاقات استراتيجية جديدة تتماشى مع التحولات الجيوسياسية. فقد شدّد الرئيس عبد المجيد تبون على أن الإرث التحرري المشترك يجب أن يكون “دافعا نحو تعزيز العلاقات التاريخية وتوسيعها”، في وقت تعيش فيه إفريقيا موجة تحولات تتطلب تحالفات مستقلة قادرة على فرض صوتها داخل النظام العالمي. في هذا السياق، لم يكتفِ الرئيسان باستعادة خطابات الثورة، بل أبرزا بوضوح أن هذا التوافق السياسي يندرج ضمن رؤية أوسع لإفريقيا تتطلع إلى بناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل والندية. وأكد الرئيس منانغاغوا أن زيمبابوي تسعى للتعاون مع دول “تتقاسم معها نفس الروح والطموح”، في رسالة تعكس تقاربا في المنهج بين بلدين يسعيان إلى كسر أنماط التبعية التقليدية. ولعل توقيت الزيارة، وسط تحديات أمنية وسياسية واقتصادية إقليمية، يعزز من قيمتها الرمزية والعملية. إذ لم تعد العلاقات الجزائرية-الزيمبابوية قائمة فقط على العاطفة التاريخية، وباتت تطمح اليوم لتشكيل “محور عقلاني” داخل القارة الإفريقية، يرتكز على السيادة الوطنية، وتفضيل الحلول الإفريقية لمشاكل إفريقيا، وهي المفاهيم التي تتقاطع مع جوهر المشروع الجزائري في إفريقيا الجديدة. وهكذا، يمكن القول إن التحالف النضالي بين الجزائر وزيمبابوي يُعاد تشكيله في قالب معاصر، يتجاوز الشعارات إلى بناء آليات تعاون ملموسة. وفي زمن التكتلات الصاعدة والمنافسات الدولية على إفريقيا، تعود العلاقات الجزائرية-الزيمبابوية كحالة نموذجية لتحالف ثوري يملك مقومات البقاء والتجدد.
مواقف موحّدة في قضايا التحرر والسيادة
من اللافت في هذه الزيارة الثنائية بين الجزائر وزيمبابوي، أنها لم تنحصر في إطار التعاون الثنائي التقليدي، وإنما تحوّلت إلى منصة لإبراز انسجام لافت في المواقف السياسية تجاه القضايا الإقليمية والدولية، لا سيما تلك المرتبطة بالتحرر، تقرير المصير، ورفض الهيمنة الأجنبية. فقد عبّر الرئيسان، بتوافق واضح، عن دعمهما الكامل لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، كما شدّدا على ضرورة تحمّل المجتمع الدولي لمسؤولياته في إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، في موقف يعكس التقاء الرؤية الإنسانية مع الموقف السياسي المبدئي. ولم تغب قضية الصحراء الغربية عن جدول المحادثات، حيث أكد الجانبان أن هذه القضية تظلّ “آخر مستعمرة في إفريقيا” وتندرج ضمن مسار تصفية الاستعمار، مجددين دعمهم لجهود الأمم المتحدة من أجل تمكين الشعب الصحراوي من ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير. هذا الموقف المبدئي، الذي طالما عبّرت عنه الجزائر، وجده في زيمبابوي سندا دبلوماسيا راسخا، يعزّز من الخطاب الإفريقي المشترك في مواجهة محاولات التعتيم والتأثير الأجنبي. كما شدّد الرئيس تبون، على أن “الحلول الإفريقية لمشاكل إفريقيا” هي الخيار الأوحد لتجاوز أزمات القارة، وهو ما ردده نظيره الزيمبابوي الذي عبّر عن حاجته إلى شراكات “تحترم السيادة وتتمسك بروح التضامن الإفريقي”. هذا التناغم يعكس وحدة مواقف، ونضجا في الوعي السياسي لدى البلدين، الذين يرفضان بشكل واضح أي وصاية خارجية أو حلول مفروضة تتجاهل الخصوصيات المحلية. ومن زاوية استراتيجية، فإن توافق الجزائر وزيمبابوي في مثل هذه القضايا يمنحهما قوة تفاوضية مضاعفة داخل المحافل الإقليمية والدولية، خاصة الاتحاد الإفريقي ومنظمة الأمم المتحدة، حيث تسعى الجزائر منذ سنوات إلى إعادة التوازن داخل مؤسسات اتخاذ القرار، ودفع العالم إلى الاستماع لصوت الجنوب العالمي. إن وحدة المواقف بين الجزائر وزيمبابوي في قضايا التحرر والسيادة هي امتداد طبيعي لتقاطع رؤى متجذّرة في تاريخ مشترك، وتتجدّد اليوم في سياق دولي يفرض على دول الجنوب بناء تحالفات قائمة على المبادئ والندية، لا على المصالح الظرفية.
شراكة اقتصادية خارج التبعية التقليدية
لم تكتفِ الجزائر وزيمبابوي خلال هذه الزيارة بالتأكيد على تطابق الرؤى السياسية، بل حرصتا أيضا على إعطاء دفع عملي للتعاون الاقتصادي الثنائي، بما يتجاوز منطق المساعدات الظرفية نحو تأسيس شراكة حقيقية ومتوازنة. وقد تُوّج اللقاء بين الرئيسين، بتوقيع مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات حيوية، أبرزها الاستثمار، التعليم، السياحة، والأرشيف، إلى جانب اتفاقات في التكوين المهني والتعليم العالي، ما يعكس رغبة جادة في بناء قاعدة قانونية تسمح بتحريك المبادلات وتعزيز التبادل المعرفي والتقني بين البلدين. ومن أبرز ما تم الاتفاق عليه، إنشاء مجلس أعمال مشترك بين غرفتي التجارة والصناعة الجزائرية والزيمبابوية، وهي خطوة تحمل دلالات قوية على الانتقال من منطق “الدعم” إلى منطق “الاستثمار”. كما وجّه الرئيس تبون، دعوة مباشرة إلى المتعاملين الاقتصاديين في زيمبابوي للمشاركة في الطبعة القادمة لمعرض التجارة الإفريقية البينية المقرر تنظيمه في الجزائر، وهي دعوة تُظهر طموح الجزائر في لعب دور محوري في ربط الأسواق الإفريقية ببعضها البعض عبر منصات تجارية متخصصة. وتكمن أهمية هذه الشراكة في بعدها الجغرافي والاقتصادي، إذ تمثل الجزائر بوابة طبيعية نحو شمال إفريقيا وأوروبا، بينما تُعد زيمبابوي نقطة ارتكاز داخل الجنوب الإفريقي. هذا الامتداد الجغرافي المتكامل يمكن أن يشكل حلقة وصل استراتيجية لتسهيل تدفقات السلع والخدمات داخل القارة، خصوصا في ظل بدء تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، ما يمنح البلدين فرصا حقيقية لتعزيز مكانتهما الاقتصادية على المستوى الإقليمي. وعلى صعيد الدعم المباشر، لم تغفل الجزائر عن تقديم مساعدات ملموسة لزيمبابوي، أبرزها إرسال 15 ألف طن من الأسمدة للتخفيف من آثار الجفاف الناتج عن ظاهرة “النينيو”، وهي خطوة لاقت ترحيبا شعبيا كبيرا، ورسّخت صورة الجزائر كشريك “سخي وموثوق”، لا سيما في أوقات الأزمات. كما أن بناء مدرسة بتمويل جزائري يعكس بعدا إنسانيا واستراتيجيا في الوقت ذاته، حيث تندمج المساعدة مع بناء رأس المال البشري. بهذا الزخم، تبدو الشراكة الاقتصادية بين الجزائر وزيمبابوي نواة لتحالف تنموي بديل داخل القارة الإفريقية، يرتكز على الاستقلالية، الندية، واستثمار العلاقات التاريخية لبناء واقع اقتصادي جديد، لا مكان فيه للوصاية ولا للهيمنة.
أمن إفريقيا.. بين الالتزام السياسي والتنسيق الميداني
لم تغب القضايا الأمنية عن المحادثات الجزائرية الزيمبابوية، بل شكلت أحد أبرز محاور التقارب بين البلدين، خاصة في ظل ما تشهده القارة الإفريقية من تحديات متصاعدة تتمثل في الإرهاب، النزاعات المسلحة، الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية. وقد استثمر الرئيس عبد المجيد تبون صفته كمنسق للاتحاد الإفريقي في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، ليؤكد من جديد التزام الجزائر بـ”مواصلة دورها المعزز لجهود الاتحاد في استتباب السلم والأمن”، وهي رسالة تعكس مدى مركزية البُعد الأمني في الرؤية الجزائرية تجاه إفريقيا. في المقابل، لم يكن الرئيس منانغاغوا بعيدا عن هذه الرؤية، بل عبّر عن دعمه الكامل لتوجه الجزائر في مقاربة أمن القارة من داخلها، بعيدا عن التدخلات الأجنبية التي كثيرا ما ساهمت في تعقيد الأزمات بدل حلها. وأشار إلى أن زيمبابوي، مثل الجزائر، تتبنى مقاربة تقوم على “التمسك بالسيادة الوطنية ورفض الوصاية”، في تأكيد على أن الشراكة بين البلدين تمتد من السياسة والاقتصاد إلى الأمن الإقليمي. وقد برز في التصريحات الثنائية توافق واضح حول ضرورة بناء مقاربات أمنية إفريقية خالصة، تستند إلى التعاون بين الدول دون الاعتماد المفرط على القوى الأجنبية. هذه المقاربة تنسجم مع الطرح الذي دافعت عنه الجزائر مرارا داخل الاتحاد الإفريقي، والداعي إلى إنشاء مؤسسات أمنية قارية مستقلة، تتكفل بالتنسيق وتبادل المعلومات وتقديم الدعم للدول المتضررة من الجماعات المسلحة العابرة للحدود. ولا يمكن فصل هذا الطرح عن الواقع الأمني المتغير في القارة، حيث تشهد مناطق مثل الساحل والصحراء، والقرن الإفريقي، وحتى الجنوب الإفريقي، تصاعدا للتهديدات المرتبطة بالجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية. في هذا السياق، يصبح التعاون الأمني بين الجزائر وزيمبابوي ضرورة إقليمية تفرضها طبيعة التهديدات الجديدة التي لا تعترف بالحدود ولا بالسيادة. الرؤية الأمنية التي تقاسمتها الجزائر وزيمبابوي خلال هذه الزيارة تتجاوز الإعلانات البروتوكولية، لترسم ملامح تحالف أمني-سياسي قد يفتح المجال لمزيد من التنسيق العملي مستقبلا، سواء من خلال تبادل الخبرات، أو المساهمة في مبادرات مشتركة تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، في سبيل إفريقيا أكثر استقرارا وسيادة.
نحو نظام دولي أكثر عدلا.. صوتان إفريقيان في زمن التحولات
وفي خضم التحولات الجيوسياسية العالمية، لم تتجاهل الجزائر وزيمبابوي مسألة إصلاح النظام الدولي، وجعلتا منها محورا مهما في محادثاتهما، انطلاقا من قناعة راسخة بأن هذا النظام لم يعد يعكس توازنات القوى الحقيقية، ولا يضمن تمثيلا منصفا للدول الإفريقية والنامية. وقد أكد الرئيس منانغاغوا أن بلاده “بحاجة إلى التعاون مع دول تتقاسم نفس الروح والطموح”، في إشارة إلى رغبته في الاصطفاف ضمن تكتل دولي يسعى لكسر هيمنة القوى التقليدية، وهي رسالة تتقاطع مع التوجه الجزائري الذي لطالما طالب بإصلاح مؤسسات الحوكمة العالمية. وتتجلى دعوات الإصلاح بوضوح في مواقف الجزائر المتكررة داخل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، حيث تدعو إلى مراجعة آليات اتخاذ القرار في مجلس الأمن، وتوسيع تمثيل إفريقيا، وضمان استقلالية القرار الدولي عن الحسابات الضيقة للقوى الكبرى. وقد وجدت هذه المواقف صدى لدى زيمبابوي، التي عانت من عقوبات وحصار اقتصادي فرضته قوى غربية، ما جعلها أكثر إدراكا لضرورة قيام نظام عالمي عادل يُنهي منطق العقوبات الأحادية والابتزاز السياسي. وفي هذا الإطار، كانت دعوة الجزائر إلى تعزيز التكتلات الإفريقية والتحالفات جنوب-جنوب خطوة عملية تترجمها زيارات رئاسية، اتفاقيات تعاون، ومواقف منسقة في المحافل الدولية. كما أن مشاركة زيمبابوي المحتملة في المعرض الإفريقي للتجارة البينية بالجزائر تشكل مثالا حيّا على ترجمة هذه الرؤية إلى أرض الواقع، من خلال تكثيف المبادلات الاقتصادية بين دول الجنوب، بعيدا عن شروط المؤسسات المالية الغربية. ويتصل هذا التوجه أيضا، برفض البلدين لمنطق “المعالجات الأحادية للأزمات العالمية”، إذ شدد الرئيس تبون على ضرورة تفضيل الحلول السلمية والنابعة من السياقات المحلية، بدل فرض حلول جاهزة لا تراعي خصوصيات الدول والشعوب. ويُعدّ هذا الطرح مكمّلا لدعوة الجزائر إلى نظام دولي يراعي التعددية، ويعتمد على الحوار والتوازن بدل الإملاءات والإقصاء. إن المواقف التي عبّرت عنها الجزائر وزيمبابوي خلال هذه الزيارة، سواء في ما يخص فلسطين، الصحراء الغربية، أو إصلاح المنظومة الدولية، تعكس إرادة سياسية صلبة في جعل صوت إفريقيا مسموعا، ليس كطرف تابع، بل كشريك فعّال في رسم معالم عالم جديد متعدد الأقطاب وأكثر عدلا وإنصافا. زيارة الرئيس الزيمبابوي إيمرسون منانغاغوا إلى الجزائر، هي إعلان واضح عن ميلاد مرحلة جديدة في العلاقات الجزائرية-الزيمبابوية، قائمة على التحول من الوفاء الثوري الرمزي إلى التنسيق الاستراتيجي الفعلي. فاللقاء بين رئيسين يحملان ذاكرة النضال وسلطة القرار يعكس إرادة مشتركة في بناء نموذج إفريقي للتعاون، يؤمن بالسيادة، ويرفض الوصاية، ويتطلع إلى مكانة أكثر عدالة في النظام الدولي. وفي عالم يشهد انقسامات حادة، ومنافسات محتدمة على إفريقيا، تثبت الجزائر مرة أخرى أنها لا تنخرط في لعبة المحاور، وتسعى إلى بناء تحالفات عقلانية مع دول تتقاطع معها في المبادئ والآفاق. وزيمبابوي، التي واجهت العزلة والضغوط الدولية لعقود، تبدو اليوم حليفا طبيعيا ضمن هذا المسار، لما تحمله من مواقف ثابتة وقرارات مستقلة، وما تتيحه من فرص تعاون حقيقي داخل القارة. من خلال هذه الزيارة، تُكرّس الجزائر مكانتها كفاعل مؤثر في صياغة مستقبل إفريقيا، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وتُعيد رسم خريطة علاقاتها جنوب الصحراء، عبر شراكات ذات مضمون سيادي، تتجاوز الاعتبارات الظرفية. وبينما تسعى قوى العالم لتوسيع نفوذها في القارة، تبني الجزائر تحالفات متجذرة في الذاكرة، ومتطلعة إلى المستقبل، على أساس من الاحترام، الندية، والوفاء للمبادئ الكبرى التي جمعت شعوب الجنوب عبر التاريخ.