-
رؤية سيادية واقتصاد متجدد يبنيان شراكة طويلة المدى
في عالم يشهد إعادة تشكّل واسعة لموازين القوة، تبرز العلاقات الجزائرية–البيلاروسية كأحد المسارات الدبلوماسية الصاعدة التي تتجاوز منطق التعاون التقليدي لتقترب من بناء شراكة تقوم على السيادة والندية وتلاقي الرؤى في مواجهة الضغوط الخارجية.
فخلال السنوات الأخيرة، تحولت الاتصالات المتبادلة بين الرئيس عبد المجيد تبون ونظيره ألكسندر لوكاشينكو إلى قاعدة صلبة لإحياء مسار ثنائي ظلّ مهملا لسنوات، قبل أن يستعيد زخمه بفعل رغبة مشتركة في تنويع الشركاء والبحث عن فضاءات تعاون جديدة في ظرف دولي تتراجع فيه هيمنة الأقطاب التقليدية.
ومع الزخم السياسي، والتحركات الاقتصادية، وتوسّع شبكات التعاون المؤسساتي، تبدو العلاقة بين البلدين اليوم في منعطف استراتيجي يفتح الباب أمام مرحلة أكثر طموحا، تتجاوز الحسابات الظرفية نحو رؤية بعيدة المدى تُراهن على الإمكانيات الضخمة للجانبين.
شراكة من نوع جديد.. لماذا تلتقي الجزائر وبيلاروسيا اليوم؟
لا يمكن فهم الديناميكية المتسارعة في العلاقات الجزائرية–البيلاروسية بمعزل عن التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، حيث تبحث الدول ذات القرار المستقل عن مساحات تعاون لا تخضع لمنطق الاصطفاف أو الإملاءات الخارجية. وفي هذا السياق، تبدو الجزائر وبيلاروسيا دولتين تلتقيان عند فلسفة سياسية مشتركة جوهرها السيادة الوطنية أولا، ورفض الضغوط والعقوبات، والتعامل الندي مع الشركاء بعيدا عن الحسابات الجيوسياسية التقليدية. هذا التوافق في الرؤية هو الذي أعاد رسم ملامح العلاقة بين البلدين، وحولها من مجرد اتصالات دبلوماسية متفرقة إلى مسار متكامل يتقدم بثبات نحو شراكة طويلة المدى. ويبرز هذا التقارب بشكل أوضح حين نتأمل الرسائل المتبادلة بين قائدي البلدين، والتي حملت مواقف سياسية واضحة حول الدفاع عن حق الشعوب في اختيار مسارها التنموي بعيدا عن الضغوط، ورفض منطق العقوبات الذي بات أداة ابتزاز سياسي في الساحة الدولية. لقد وجدت بيلاروسيا في الجزائر شريكا صلبا يتحدث اللغة نفسها: احترام السيادة، وحدة التراب، وإعلاء القرار الوطني فوق أي حسابات خارجية. وبالمقابل، رأت الجزائر في بيلاروسيا نموذجا لدولة تبحث عن تعزيز حضورها الدولي عبر شراكات متوازنة لا تقوم على الهيمنة أو المصالح الأحادية. وتتعمق أهمية هذا الالتقاء حين نلاحظ أن كلا البلدين يواجهان رهانات داخلية وإقليمية تستدعي تنويع الشركاء الاقتصاديين والسياسيين. فالجزائر، في مرحلة إعادة بناء اقتصادي واسع، تسعى إلى تجاوز الدوائر التقليدية للتعاون نحو فضاءات جديدة في أوروبا الشرقية وآسيا، ضمن رؤية تعتمد على تنويع مصادر التكنولوجيا، والاستثمار، والتجهيزات الصناعية. أما بيلاروسيا، التي تواجه ضغوطا غربية متزايدة، فتسعى إلى فتح نوافذ جديدة للسياسة الخارجية عبر الاقتراب من الدول التي تتقاطع معها في فلسفة الحكم، وتملك قدرات اقتصادية واعدة. ومن هنا يبدو التقارب بين الجزائر وبيلاروسيا نتيجة طبيعية لمسار سياسي تراكمي، وليس ظرفا مرتبطا بزيارة رسمية أو مناسبة دبلوماسية. إنه تقارب تحكمه حسابات استراتيجية تقوم على مبدأ الربح المتبادل، وتستند إلى قراءة مشتركة لعالم يتغير بسرعة، حيث لم يعد الاعتماد على شريك واحد خياراً آمنا، ولا الانغلاق على حلفاء تقليديين مسارا قابلا للاستمرار. لقد وجدت الدولتان في بعضهما مرآة سياسية تعكس قيما مشتركة، وهو ما يفسّر هذا التوافق المتزايد الذي سيخدم المرحلة المقبلة من التعاون الثنائي.
الدبلوماسية الرئاسية.. حجر الأساس في المسار الثنائي
وإذا كان الالتقاء في الرؤية السياسية قد أسّس لجوّ من الثقة بين البلدين، فإن الدبلوماسية الرئاسية هي التي نقلت هذا التقارب من مستوى النوايا إلى مستوى الفعل. فمنذ سنوات، تحولت الاتصالات المتكررة بين الرئيس عبد المجيد تبون ونظيره ألكسندر لوكاشينكو إلى عنصر محوري في تحريك العلاقة، ليس فقط من حيث تبادل الرسائل والتنسيق السياسي، بل أيضا من حيث رسم اتجاهات واضحة لمسار تعاون طويل المدى. وقد كشفت الرسائل التي بعثها الرئيس البيلاروسي إلى نظيره الجزائري في مناسبات عدة عن حرص متزايد على بناء علاقة تقوم على الاحترام المتبادل والندية، وعن رغبة حقيقية في توسيع نطاق الشراكة بما يتوافق مع مصالح الشعبين. وتظهر فعالية هذا المسار الرئاسي في كون اللقاءات والزيارات التي أعقبت هذه الاتصالات جاءت محمّلة بملفات عملية، واقتراحات تعاون ملموسة، ورغبة مشتركة في تحويل الخط السياسي العام إلى خيارات اقتصادية على الأرض. فاجتماعات الوزراء، والزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين، والاستعدادات التقنية للجان المشتركة، كلها كانت نتيجة مباشرة لإرادة سياسية عليا تدفع نحو علاقة أكثر عمقا واستقرارا. ولا يمكن إغفال أن هذا الزخم السياسي جاء في لحظة تشهد فيها العلاقات الدولية توترا متزايدا، ما جعل الانفتاح على شركاء جدد خيارا استراتيجيا لكلا البلدين. لقد أدرك الطرفان أن بناء شراكات محكومة برغبة القيادات السياسية العليا يجعلها أكثر قدرة على الصمود أمام التقلبات الدولية، وأكثر وضوحا في أهدافها: شراكة تترسخ من الأعلى إلى الأسفل، تتسع تدريجيا لقطاعات الاقتصاد والعلم والتقنية، وتمنح الملفات المشتركة ثقلا سياسيا يجعلها محمية من أي تغييرات ظرفية. وبذلك أصبحت الدبلوماسية الرئاسية قاطرة أساسية دفعَت العلاقات الجزائرية–البيلاروسية نحو مرحلة جديدة، تتجاوز فيها اللقاءات الرسمية إطار البروتوكول إلى ممارسة فعلية لصناعة القرار الثنائي. وما نراه اليوم من نشاط اقتصادي وسياسي مكثف ليس سوى ترجمة لهذه الإرادة السياسية المتبادلة، التي ستؤطر بالفعل المرحلة المقبلة من الشراكة، مهما تغيّرت الظروف أو توسعت الملفات.
اقتصاد يتحرّك.. إمكانيات ضخمة تبحث عن توظيف مشترك
وبالانتقال من الطابع السياسي إلى المجال الاقتصادي، يتضح أن التقارب الجزائري–البيلاروسي أخذ يتحول تدريجيا إلى مشروع اقتصادي واسع الأفق يلامس قطاعات متعددة ويتجاوز الشراكات الكلاسيكية. فقد شكّل المنتدى الاقتصادي الجزائري–البيلاروسي محطة أساسية في تحديد مجالات التعاون الممكنة، حيث ناقش المسؤولون والمتعاملون الاقتصاديون فرص الاستثمار في قطاعات تمتلك فيها بيلاروسيا خبرة صناعية عميقة، وتمتلك الجزائر في المقابل قدرات إنتاجية وسوقا واعدة وبنية تحتية قيد التوسع. هذا التلاقي بين القدرات يفتح الباب أمام تعاون يقوم على التكامل، لا على المنافسة أو الوصفات الجاهزة. وتُظهر مجالات التعاون المقترحة — من الفلاحة والصناعات الغذائية إلى الطاقة والصناعة الصيدلانية والنقل والابتكار — أن البلدين يملكان إمكانيات كبيرة لتطوير مشاريع متعددة الأبعاد. فالجزائر، التي تخوض تحولا اقتصاديا واسعا، تبحث عن نقل تكنولوجيا حقيقية في ميادين الصناعة الثقيلة والميكانيكية والطاقوية، وهي قطاعات راكمت فيها بيلاروسيا خبرات معتبرة، خصوصا في الصناعات الزراعية والميكانيكية ومعدات النقل. وفي المقابل، تمنح الجزائر لشركائها سوقا إقليمية تمتد نحو إفريقيا وتجمع بين الموارد الطبيعية والطلب المتزايد على التكنولوجيا، وهو ما يجعل من التعاون بين البلدين فرصة للتوسع نحو آفاق جديدة. كما يشكل التعاون في المجالات العلمية والتقنية أحد أعمدة هذه الشراكة الناشئة، خاصة بعد الاتفاق على تعزيز التعاون في ميدان الابتكار ونقل الخبرات. فبيلاروسيا، التي تحتفظ بمكانة صناعية وتقنية راسخة منذ الحقبة السوفياتية، قادرة على توفير معرفة تقنية دقيقة في مجالات متقدمة، في حين تسعى الجزائر إلى دعم انتقالها نحو اقتصاد المعرفة عبر شراكات تحقق لها قفزة نوعية بدل الاكتفاء بنماذج استيراد التكنولوجيا. وهذا ما يعطي التعاون بين البلدين طابعا استراتيجيا يتجاوز الحسابات التجارية القصيرة المدى. وما يعزز هذه الديناميكية هو إدراك الطرفين أن بناء اقتصاد ثنائي متين يتطلب تأسيس شبكة علاقات مؤسساتية بين الشركات، وتبسيط الإجراءات، وتوسيع الاتصالات بين المتعاملين الاقتصاديين في الجانبين. وقد شكّلت الدورة الأولى للجنة المشتركة الجزائرية–البيلاروسية في مينسك خطوة مهمة في هذا الاتجاه، لأنها حدّدت بشكل واضح القطاعات ذات الأولوية، وأثبتت أن البلدين قادران على إنشاء مشاريع مربحة للطرفين إذا ما واصل كل منهما الاستثمار في هذا المسار المتنامي. وهكذا يتحول الاقتصاد إلى الجسر العملي الذي يعطي للعلاقة السياسية معناها، ويجعل الشراكة بين البلدين مرشحة للانتقال إلى مرحلة أكثر نضجاً وتنوعاً في السنوات المقبلة.
من اللجان المشتركة إلى المنتديات.. بناء هندسة تعاون طويلة المدى
ومع توسّع أفق التعاون الاقتصادي، برزت الحاجة إلى إطار مؤسساتي قادر على تحويل التفاهمات السياسية إلى مشاريع حقيقية، وهنا يأتي دور اللجان المشتركة والمنتديات المتخصصة التي أصبحت تشكل العمود الفقري لهندسة التعاون الجزائري–البيلاروسي. فالاجتماعات الدورية للجنة المشتركة — التي عُقدت دورتها الأولى في مينسك — مثّلت لحظة مفصلية لوضع أسس واضحة لمسارات التعاون، وتحديد القطاعات ذات الأولوية، ورسم آليات المتابعة التقنية. هذا النوع من الهياكل الدائمة هو ما يضمن استمرارية العلاقات بعيدا عن تغيّر الأحداث أو تبدّل الحكومات، لأنه يجعل التعاون جزءا من عمل مؤسساتي منظم وليس مبادرات ظرفية. وتُظهر محاضر اللقاءات الأخيرة أن البلدين لا يكتفيان بالحديث عن التعاون، بل يسعيان إلى توسيعه ليشمل المجالات العلمية والتكنولوجية والابتكار، وهو ما يمنح العلاقة طابعا استراتيجيا يتجاوز منطق المبادلات التجارية. فالبلدان يعلمان أن بناء شراكة قوية يتطلب الاستثمار في المعرفة والتقنيات، وأن الانتقال نحو اقتصاد أكثر تنوعا لا يمكن أن يتم دون شبكات تعاون بحثي ومشاريع مشتركة تجمع الجامعات والمراكز التقنية والمتعاملين الاقتصاديين. وهذا البعد العلمي هو ما يمنح الشراكة طابعها المستقبلي وقدرتها على التطور في المدى الطويل. كما يبرز المنتدى الاقتصادي السنوي بين البلدين كفضاء مهم لتجميع المتعاملين والفاعلين، وتطوير المقترحات، وتسهيل اللقاءات المباشرة بين الشركات الجزائرية والبيلاروسية. فالمنتديات أصبحت اليوم أحد أهم أدوات الدبلوماسية الاقتصادية، لأنها تتجاوز الخطابات إلى فتح قنوات اتصال عملية، وتسمح ببناء شراكات فعلية بين المؤسسات. وقد انعكس ذلك في الاجتماعات الأخيرة بالجزائر العاصمة، حيث برزت رغبة مشتركة في وضع آليات تسمح باستغلال الإمكانيات الصناعية والتجارية لكلا البلدين بصورة أكثر فعالية. وإلى جانب الهياكل الاقتصادية، تستعيد الدبلوماسية البرلمانية بدورها أهميتها في دعم هذا المسار، بعد تأسيس مجموعة الصداقة البرلمانية الجزائر–بيلاروسيا. ورغم أن هذا النوع من التعاون يبدو للوهلة الأولى رمزيا، إلا أنه في الواقع يساهم في تعميق التفاهم السياسي، وتوسيع العلاقات بين المؤسسات المنتخبة، وخلق قنوات إضافية للحوار بين الشعوب. ومع اتساع هذا البناء المؤسساتي، تتجه العلاقات بين البلدين نحو نمط جديد من التعاون المتكامل، الذي لا يقتصر على الحكومات وحدها، بل يشمل البرلمانات والمستثمرين والجامعات والمجتمع المدني، ليشكل في النهاية بنية شراكة قابلة للنمو المستدام في السنوات المقبلة.
الرهانات المستقبلية.. نحو شراكة تتجاوز الظرفي والمؤقت
ومع تبلور هذا النسق المتصاعد من التعاون السياسي والاقتصادي والمؤسساتي، تبرز أمام الجزائر وبيلاروسيا رهانات مستقبلية تجعل من الشراكة بينهما أكثر من مجرد علاقات ثنائية عادية، بل مشروعا طويل الأمد يستجيب لتحولات عالم يتجه بسرعة نحو تعدد الأقطاب وتراجع الانفراد الغربي في رسم قواعد اللعبة الدولية. فالبلدان يدركان أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة تنافس على التكنولوجيا، والزراعة المتطورة، والأمن الطاقوي، والأسواق الإقليمية، وهو ما يضعهما أمام فرص كبيرة لبناء تعاون يتجاوز المبادلات التجارية إلى إقامة مشاريع إنتاجية مشتركة ذات قيمة مضافة عالية، قادرة على منح الجزائر موقعا صناعيا جديدا وتمنح بيلاروسيا منفذا واسعا نحو إفريقيا والعالم العربي. ويُعدّ قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية أحد أبرز هذه الرهانات، إذ تتلاقى فيه القدرات التكنولوجية البيلاروسية مع الإمكانيات الزراعية الكبيرة التي تزخر بها الجزائر، بما يتيح إقامة وحدات تصنيع مشتركة ونقل خبرات متقدمة في المكننة والميكنة الزراعية. كما يفتح التعاون في مجالات الصناعة الميكانيكية والطاقة والصناعة الصيدلانية الباب أمام مشاريع إنتاجية يمكن أن تندمج لاحقا في الأسواق الإفريقية، خصوصا مع توجّه الجزائر لتعزيز تموقعها داخل منطقة التجارة الحرة القارية. وهذه الرؤية متعددة الاتجاهات تمنح الشراكة بين البلدين بعدا جيو-اقتصاديا لا يقل أهمية عن بعدها السياسي. كما يشكل الابتكار والبحث العلمي رهانا مركزيا في هذا المسار، باعتبارهما الركيزة الأساسية لأي انتقال اقتصادي حقيقي. فامتلاك بيلاروسيا لبنية علمية وتقنية متقدمة، وامتلاك الجزائر لبرامج واسعة لتطوير اقتصاد المعرفة، يفتحان المجال أمام تعاون عميق في مجالات التكنولوجيا الصناعية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والبحث التطبيقي. هذا النوع من الشراكات يهدف إلى نقل المعرفة وتوطينها، وهو ما يمنح الطرفين قدرة أكبر على مواجهة التحديات المستقبلية، سواء تعلق الأمر بالأمن الغذائي أو التحولات الصناعية أو التنافس التكنولوجي. وتبقى أهم رهانات المرحلة المقبلة هي القدرة على تحويل هذا المسار إلى شراكة مستقرة ومستدامة، تتجاوز الحسابات الآنية وتقوم على رؤية واضحة للمستقبل. فالزيارات الرسمية، واللجان المشتركة، والمنتديات الاقتصادية، والدبلوماسية البرلمانية، كلها ليست سوى أدوات لبناء منظومة تعاون شاملة تحتاج إلى تراكم مستمر وتنسيق دائم. وإذا ما استثمر البلدان هذا الزخم بالشكل الصحيح، فإنهما قادران على صياغة نموذج تعاون جديد في المنطقة، نموذج يقوم على السيادة، والندية، والربح المتبادل، ويجعل من الجزائر وبيلاروسيا شريكين فاعلين في عالم يتغير بسرعة. وهكذا تتحول الرهانات المستقبلية إلى فرص حقيقية، وتتحول الإرادة السياسية إلى مشروع استراتيجي يأخذ مكانه ضمن خريطة التحالفات الدولية الجديدة.
