تحركات جزائرية في الخارج لاسترجاع حقوق الشعب

الجزائر واسترداد الأموال المنهوبة.. معركة وراء الحدود

الجزائر واسترداد الأموال المنهوبة.. معركة وراء الحدود

تخوض الجزائر منذ سنوات مواجهة حاسمة لاسترداد الأموال المنهوبة خلال حقبة ما بات يُعرف بـ”العصابة”، في مسعى يستند إلى وعد سياسي قطعه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، منذ وصوله إلى سدة الحكم، بأن لا تهاون مع من سرق المال العام ولا تساهل في استرجاعه، مهما كانت التعقيدات.

ومع تسجيل ما يفوق 30 مليار دولار كأموال مسترجعة على شكل عقارات وأرصدة ومصانع، ومع تحرك الدولة على جبهات متعددة – قضائية، دبلوماسية وتقنية – بات هذا الملف عنوانا بارزا لمرحلة الجزائر الجديدة، التي ترفع شعار “العدالة والشفافية لا تسقط بالتقادم”، وتعتبر أن استرجاع المال المنهوب مطلبا شعبيا، وواجبا سياديا واستحقاقا وطنيا لا يقبل التأجيل. كانت الأموال المنهوبة، تمثل نزيفا حقيقيا في جسد الدولة الجزائرية، امتد لسنوات وألحق أضرارا عميقة بمؤسساتها وثقة مواطنيها. فترة حكم العصابة، التي وُصفت بأنها الأخطر في تاريخ الجمهورية، شهدت نهبا ممنهجا للمال العام تحت غطاء الاستثمارات الوهمية، والصفقات العمومية المغشوشة، وتحالفات رجال المال مع شبكات النفوذ. هذا النهب لم يقتصر على الداخل، فقد تم تهريب المليارات إلى الخارج بطرق معقدة، بعضها عبر تحويلات مصرفية مشبوهة، وأخرى من خلال شراء عقارات وممتلكات في دول أوروبية وآسيوية، أو فتح شركات واجهة لإخفاء الأصل الحقيقي للأموال. ومع سقوط رموز العصابة، بدأ الغطاء ينكشف عن حجم الكارثة المالية التي واجهتها البلاد، والتي كانت تتطلب استجابة تتجاوز منطق المحاسبة التقليدية. منذ انطلاق الحراك الشعبي في 2019، تحوّل مطلب محاسبة ناهبي المال العام إلى أولوية شعبية لا تقبل المساومة، وكان من الطبيعي أن تتحرك الدولة، تحت ضغط الشارع وتحدي المرحلة، لإعادة فتح هذا الملف، لمحاسبة المتورطين، ولاستعادة ما تم نهبه من ثروات. هذه الأموال، التي كانت من المفترض أن تُستثمر في التنمية، تحوّلت إلى رموز للظلم والتمييز واللاعدالة، في وقت كان فيه الشعب يعيش أزمات معيشية خانقة. فتح ملف الأموال المنهوبة مثّل نقطة تحوّل فارقة، ليس فقط قانونيا، ولكن سياسيا وأخلاقيا، لأنه يلامس صميم العلاقة بين الدولة ومواطنيها. كان الاعتراف الرسمي بوجود أموال مهربة، وإطلاق حملة لاستردادها، خطوة أولى في طريق طويل ومعقد، يتطلب أدوات جديدة وفهما دقيقا لطبيعة الشبكات التي تدير هذه الثروات خارج الحدود. الجزائر أدركت أن استعادة الأموال هو مسار سيادي كامل، يستهدف استرجاع الثقة المفقودة، وترميم الصورة التي اهتزت، وتثبيت رسالة مفادها أن المال العام أمانة، وأن التلاعب به لن يمر دون حساب، مهما طال الزمن أو تغيّرت المواقع.

 

الرئيس تبون… وعد سياسي تحوّل إلى التزام فعلي

منذ الأيام الأولى لتوليه رئاسة الجمهورية في ديسمبر 2019، وضع الرئيس عبد المجيد تبون ملف استرجاع الأموال المنهوبة في صدارة أولوياته، إدراكا لحساسيته السياسية ورمزيته لدى الرأي العام. لم يكن ذلك مجرد شعار انتخابي عابر، فقد أكدت مختلف خطاباته وتصريحاته أن محاربة الفساد واسترجاع أموال الشعب هي جزء من رؤية شاملة لبناء دولة قوية وعادلة. في خطاب تاريخي أمام البرلمان بتاريخ 25 ديسمبر 2023، أعلن الرئيس تبون عن استرجاع ما يفوق ثلاثين مليار دولار من الأموال المنهوبة، من خلال مبالغ مالية، عقارات، ووحدات صناعية كانت محل نهب خلال فترة حكم العصابة. هذا الإعلان جاء تأكيد على أن الدولة ماضية في محاسبة المتورطين وفي ملاحقة الأموال داخل وخارج البلاد، باستخدام كل الوسائل القانونية والدبلوماسية المتاحة.

وعود الرئيس لم تتوقف عند مرحلة التشخيص، وتحولت إلى سياسة ممنهجة تقودها مؤسسات الدولة المختلفة. فقد تم إنشاء لجنة وطنية للخبراء لمتابعة الملفات المتعلقة بالأموال المهربة، كما تم تكثيف الإنابات القضائية إلى الدول الأجنبية، بالتوازي مع الانضمام إلى عدد من الشبكات والمنصات الدولية المعنية باسترداد الموجودات، ما يعكس جدية الجزائر في التحرك وفق قواعد القانون الدولي. هذا الالتزام السياسي، مكّن من تحقيق خطوات ملموسة على أرض الواقع، ليس فقط في شكل حسابات مجمدة أو عقارات مصادرة، وإنما من خلال إعادة تشغيل مصانع كانت مغلقة بسبب قضايا فساد، مثلما أشار إليه وزير الصناعة السابق علي عون الذي تحدث عن استرجاع قرابة 15 مصنعا وتوجيهها إلى مؤسسات عمومية من أجل بعث النشاط الاقتصادي من جديد. الرئيس تبون، في كل مناسبة، يربط استرجاع المال العام بإعادة الاعتبار للدولة، ويحرص على التذكير بأن المعركة لم تنته بعد. هذا الخطاب المتكرر يثبت أن القضية لم تُترك للقضاء وحده، وإنما تحوّلت إلى توجه استراتيجي مدعوم بإرادة سياسية صلبة، هدفها تجاوز ممارسات الماضي وتأسيس قطيعة حقيقية مع منطق الإفلات من العقاب.

 

من القضاء إلى الدبلوماسية… خطة متكاملة لاسترجاع الأموال

تحركت الدولة الجزائرية بخطة متعددة الأبعاد لاسترجاع الأموال المنهوبة، مستفيدة من كل الأدوات المتاحة، سواء على المستوى القضائي أو من خلال القنوات الدبلوماسية المتخصصة. هذا التوجه يعكس إدراكا رسميا بأن المعركة ضد تهريب الأموال تتطلب استراتيجية شاملة، تشمل بناء شراكات دولية وتحريك شبكات التعاون القضائي عبر العالم. وزارة العدل كانت في قلب هذا المسار، حيث أرسلت الجزائر منذ انطلاق العملية نحو 335 إنابة قضائية دولية إلى 32 دولة، تطلب من خلالها المساعدة في تتبع العائدات الإجرامية وتجميدها ومصادرتها. كما تم توجيه 53 طلب استرداد أصول إلى 11 دولة، بعضها إفريقية، ما يعكس حرص السلطات على تنويع الشركاء وتوسيع دائرة التحرك خارج المحيط الأوروبي التقليدي. هذه التحركات القضائية رافقتها جهود سياسية على أعلى مستوى، من خلال عقد لقاءات ثنائية ومؤتمرات دولية تم خلالها مناقشة ملفات حساسة، كان آخرها ما حدث في سويسرا، حيث تحادث وزير العدل الجزائري مع نظيره السويسري بشأن استرداد الأموال المجمدة. اللقاءات سمحت بتقريب وجهات النظر والتأكيد على الطابع الاستراتيجي للتعاون القانوني بين البلدين. الجزائر عززت هذا المسعى من خلال انضمامها إلى شبكات دولية متخصصة، مثل مبادرة “ستار” التابعة للبنك الدولي، والمنتدى العالمي لاسترداد الموجودات، والشبكة العالمية لهيئات إنفاذ القانون، إضافة إلى الشبكة الإقليمية “أرين-مينا”، التي مكنت الجزائر من عقد لقاءات جانبية مثمرة مع الدول المعنية خلال مؤتمر مكافحة الفساد لعام 2023. كل هذه المبادرات تؤكد أن الدولة لا تعتمد على المسار الأحادي في ملاحقة الأموال، وتعمل على نسج شبكة تعاون دولي واسعة، تدمج بين التحرك الرسمي، والتفاوض القانوني، والانخراط المؤسسي في المنصات الأممية، لتضمن لنفسها أدوات فاعلة في متابعة أموال الشعب واستردادها مهما طال المسار.

 

عراقيل معقدة.. بين السيادة القضائية وحجج السرية المصرفية

رغم التحرك الواسع الذي تقوده الجزائر لاسترجاع الأموال المنهوبة، إلا أن الطريق ما يزال مليئا بالعقبات القانونية والسياسية التي تعرقل هذا المسعى. هذه العراقيل تختلف من بلد إلى آخر، بحسب أنظمتها القضائية وتشريعاتها الخاصة بالتعاون الدولي، الأمر الذي يبطئ من وتيرة الاستجابة للطلبات الجزائرية ويزيد من تعقيد الإجراءات المرتبطة بتجميد الأصول أو استردادها. من بين أبرز التحديات التي تواجهها الجزائر، ما يعرف بخصوصية السيادة القضائية للدول المستقبلة للأموال، حيث تشترط بعض الدول قرارات نهائية صادرة عن محاكمها الخاصة قبل تنفيذ أي إجراء يتعلق بالمصادرة أو التحويل. هذا الشرط غالبا ما يفتح الباب أمام التأويل والتأجيل، ويجعل من عملية الاسترداد مرهونة بمسارات طويلة ومعقدة يصعب التنبؤ بنتائجها. السرية المصرفية تعد كذلك من أبرز الحواجز التي تصطدم بها السلطات الجزائرية، خاصة في الدول التي تعتمد أنظمة مصرفية مغلقة أو تمنح حماية قانونية كبيرة للممتلكات الأجنبية. هذه السرية تُستخدم في أحيان كثيرة كذريعة لعدم الكشف عن الحسابات أو رفض التعاون، رغم وجود اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف تنص على التعاون في مكافحة الجرائم المالية. ضعف التنسيق بين الجهات المعنية داخل الدول، وتعدد المتدخلين بين القضاء والدبلوماسية والإدارات المالية، يخلق بيئة ضبابية تُستغل أحيانا لإبطاء وتيرة الرد على الإنابات أو تمييع مفعولها. وفي حالات أخرى، تتدخل اعتبارات سياسية أو مصالح اقتصادية تحول دون تفعيل التعاون الكامل، رغم وجود إرادة مبدئية معلنة من بعض العواصم. هذا الواقع، يفرض على الجزائر مواصلة الضغط على أكثر من واجهة، مع الاستمرار في بناء الثقة مع الدول الشريكة، وتطوير آليات التفاوض المباشر، وتحيين القوانين الوطنية بما يسمح بتسريع الملفات، وتحقيق اختراقات فعلية في هذا المجال. فالمعركة القانونية وحدها لا تكفي، ما لم تتكامل مع مسار دبلوماسي فعال يملك أدوات التأثير والإقناع.

 

مكاسب على الأرض.. نتائج أولية ترسم طريق الاسترجاع

رغم التحديات والصعوبات، بدأت جهود الجزائر في استرجاع الأموال المنهوبة تعطي ثمارها على أكثر من صعيد. فإلى جانب المبالغ المالية والعقارات التي تم الإعلان عنها، تمكنت الدولة من استرجاع عدد من الوحدات الصناعية التي كانت محل نهب خلال فترة حكم العصابة، وتم إعادة تشغيلها في إطار خطة وطنية لإعادة بعث النشاط الاقتصادي وتوظيف الأصول المصادرة لصالح المصلحة العامة. في هذا السياق، أعلن وزير الصناعة والإنتاج الصيدلاني السابق، علي عون، عن استرجاع نحو خمسة عشر مصنعا، تمت إعادة توجيهها إلى مؤسسات عمومية من أجل إعادة تشغيلها في قطاعات الأشغال العمومية والإنتاج المحلي. هذه المصانع تمثل جزءا من الثروات التي تم تفكيكها أو تجميدها في السنوات الماضية، وقد تحولت اليوم إلى ورشات إنتاجية توفّر مناصب شغل وتسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية. كما سجلت الجزائر، نتائج ملموسة على مستوى التحويلات العقارية في الخارج، حيث تم حجز عدد من الأملاك التي كانت مملوكة لمتورطين في قضايا فساد، في دول أوروبية وإفريقية، بفضل التعاون القضائي المتدرج واللقاءات الثنائية المكثفة. هذا التقدم لا يُقاس فقط بحجم الموجودات المسترجعة، وإنما بإثبات قدرة الدولة على ملاحقة المال العام حتى خارج ترابها. الإعلان الرسمي عن استرجاع أكثر من ثلاثين مليار دولار منذ نهاية 2019 الى غاية نهاية 2023، جاء ليؤكد أن الجهود الجارية لم تكن نظرية أو إعلامية، وإنما تمت ترجمتها على شكل قرارات تنفيذية، تتابعها اللجنة الوطنية للخبراء بالتنسيق مع الجهات القضائية والدبلوماسية. هذا الرقم يمثل مرحلة أولى في مسار طويل، وهو كفيل بإعادة جزء من الثقة للمواطن، وتبديد الشكوك التي كانت تحوم حول مدى جدية الدولة في هذا الملف. الرسالة التي تُبنى من هذه النتائج، أن معركة استرجاع المال المنهوب ليست ميؤوسا منها، وأن الإرادة السياسية إذا اقترنت بالتحرك المؤسساتي الفعال، يمكن أن تفضي إلى نتائج ملموسة. فكل أصل تم استرجاعه، وكل دينار تم حجزه، يمثل استرجاعا لجزء من السيادة الوطنية، وإغلاقا لثغرة ظلّت تنزف طويلا دون محاسبة.

 

استرجاع الأموال.. معركة طويلة بأبعاد سيادية وأخلاقية

لا تندرج عملية استرجاع الأموال المنهوبة ضمن خانة الملفات المالية فقط، إذ تمثل معركة رمزية تتجاوز الأرقام والحسابات، لأنها تمس جوهر العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وتعيد الاعتبار لقيم العدالة والنزاهة والمسؤولية. هذه المعركة لا تنتهي بإصدار الأحكام أو حجز الممتلكات، وإنما تتواصل كجزء من مسار وطني شامل يهدف إلى ترميم ما أفسدته سنوات من التسيب والتغول. الرؤية التي تتبناها الجزائر اليوم تنطلق من اعتبار المال العام ملكا للجميع، وأن أي محاولة لنهبه أو تهريبه تُعد انتهاكا مزدوجا، يمس الدولة ومؤسساتها، ويضرب في عمق ثقة المواطن. لذلك تحوّلت قضية استرجاع الأموال إلى واجب سيادي تُسند إليه مسؤولية استعادة الكرامة الوطنية، واسترجاع ما ضاع في زمن كان فيه الفساد يحكم من خلف الستار. هذا التحول في النظرة لم يكن معزولا عن السياق السياسي العام، فالحراك الشعبي الذي انفجر سنة 2019 لم يكن ضد الأسماء فقط، وإنما ضد منظومة كاملة قامت على نهب الثروات وتقويض المؤسسات. ومن هذا المنطلق، حملت الدولة الجديدة على عاتقها مسؤولية تفكيك تركة الماضي، والبدء في عملية تصحيح شاملة، يكون فيها استرجاع الأموال أحد أبرز عناوين الاستقامة المؤسسية. السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد، أكدت بدورها أن استرجاع الموجودات هو استحقاق وطني لا يقبل التأجيل، وأن الرهان اليوم لا يرتبط بالجانب التقني فقط، وإنما بإرادة سياسية راسخة تستند إلى بناء مؤسسات قوية، وتعزيز التعاون الدولي، وتطوير الأطر التشريعية. وهذا ما تسعى إليه الجزائر عبر المقاربة الشاملة التي تمزج بين الردع والملاحقة والتعاون متعدد الأطراف. لا يمكن اختزال هذه المعركة في ملفات قضائية عابرة، لأنها تشكل جزءا من مسار طويل لإعادة بناء دولة القانون، واسترجاع ثقة المواطن، وترسيخ مبدأ أن المال العام خط أحمر. فكل تقدم يتحقق في هذا الملف، هو خطوة في اتجاه جزائر جديدة، لا مكان فيها للإفلات من العقاب، ولا ملاذ فيها لمن يعتقد أن الحدود تحميه من المحاسبة.

م. ع