زيارة تبون إلى روما تُعيد هندسة العلاقات الجزائرية-الإيطالية على أسس جديدة

الجزائر وإيطاليا.. شراكة متوسطية تتحول إلى تحالف استراتيجي

الجزائر وإيطاليا.. شراكة متوسطية تتحول إلى تحالف استراتيجي

حلّ رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، بروما على رأس وفد رفيع المستوى، في زيارة رسمية إلى إيطاليا، حملت في طياتها أكثر من بُعد دبلوماسي تقليدي، لتكرّس واقعًا جديدًا في العلاقات الجزائرية الإيطالية، يقوم على الانتقال من مستوى التعاون الثنائي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي المنفتح على مختلف المجالات.

فبين الاستقبالات الرسمية عالية المستوى، وانعقاد القمة الحكومية الخامسة، وتنظيم منتدى اقتصادي واسع، بدا واضحًا أن الزيارة هي محطة مفصلية في هندسة شراكة متوسطية متجددة تتماشى مع التحولات الجيوسياسية المتسارعة. وفي وقت يشهد فيه العالم اضطرابات متزايدة، تسعى الجزائر إلى تثبيت تموقعها كشريك موثوق في ضفتي المتوسط، وهو ما يبدو أن روما تدركه جيدًا. منذ اللحظة الأولى لمغادرة الرئيس عبد المجيد تبون أرض الوطن، برزت المؤشرات التي تعكس الطابع الاستثنائي للزيارة. فقد كان في توديعه بمطار هواري بومدين الدولي كل من الوزير الأول نذير العرباوي، والفريق أول السعيد شنقريحة، ما يعطي إشارة رمزية إلى دعم الدولة العميق لهذه الخطوة السياسية. وبالمثل، لم يكن استقبال الرئيس تبون في مطار “ليوناردو دا فنشي” بروما أقل رمزية، حيث حضر وزير الدفاع الإيطالي ومدير تشريفات البابا، في دلالة على الجمع بين البعد السياسي والثقافي في العلاقات بين البلدين. اختيار إيطاليا كمحطة رئيسية للرئيس تبون، بعد القمة الجزائرية الأوروبية التي احتضنتها الجزائر قبل شهر، يؤكد أن روما باتت وجهة ذات أولوية في الدبلوماسية الجزائرية، خصوصًا في ظل إعادة صياغة التحالفات الإقليمية والأوروبية. الزيارة جاءت في سياق إقليمي يشهد إعادة ترتيب المصالح بين ضفتي المتوسط، في ظل الأزمات الممتدة من الساحل إلى شرق المتوسط، وما يرافقها من تحولات في موازين القوة، خاصة في مجالات الطاقة والهجرة والأمن. من الناحية البروتوكولية، جرت مراسم استقبال الرئيس الجزائري بالقصر الرئاسي “كورينالي” وفقًا للأعراف الإيطالية الصارمة، مما يعكس الاحترام المتبادل بين البلدين. وقد تخلل ذلك، عزف النشيدين الوطنيين، واستعراض فرق الحرس الجمهوري، لتنتقل العلاقات بذلك من طابعها التقليدي إلى مستوى العلاقات بين دولتين حليفتين. كما حملت الوفود المرافقة للرئيسين إشارات واضحة حول التنوع القطاعي للزيارة، بما يعكس الأهمية الشاملة لها، وعدم اقتصارها على ملفات الطاقة فحسب، بل انفتاحها على قضايا الأمن، والاقتصاد الرقمي، والبنية التحتية، وحتى الإنتاج الثقافي والسينمائي. إن التوقيت الحساس للزيارة، وطبيعة الاستقبال الرسمي، وتركيبة الوفد، كلها مؤشرات على أن الجزائر وإيطاليا بصدد تثبيت “شراكة واعية”، تتجاوز الظرفية، وتهدف إلى خلق فضاء مشترك من المصالح المستقرة والمتجددة.

 

قمة حكومية خامسة.. منبر لترجمة التحالف إلى أفعال

Aucune description de photo disponible.

القمة الحكومية الجزائرية-الإيطالية الخامسة شكلت امتدادًا عمليًا لمسار سياسي ودبلوماسي مشترك انطلق منذ سنوات، لكنه عرف في الفترة الأخيرة ديناميكية غير مسبوقة. فانعقاد القمة في قلب العاصمة الإيطالية، وترؤسها من قبل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، يعكس التحول في نوعية العلاقة بين الجزائر وإيطاليا، من مجرد شراكة تقليدية إلى تنسيق حكومي شامل يشمل قطاعات متعددة، ويُدار على أعلى المستويات التنفيذية في كلا البلدين. القمة، التي احتضنها قصر “كيجي”، مقر رئاسة الوزراء الإيطالية، أتت بعد محادثات ثنائية بين الرئيس تبون ونظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، وهو ما يعكس انسجاما على مستويي الرئاسة والحكومة في كلا الطرفين. وقد سمحت هذه القمة بتحديد أولويات التعاون في المرحلة المقبلة، وتثبيت آليات المتابعة والتنفيذ، ما يجعل من هذه القمم الدورية أداة مؤسساتية حقيقية لترجمة الإرادة السياسية إلى برامج عمل ملموسة. اللافت في هذه الدورة، هو تنوع المواضيع المطروحة، وارتباطها المباشر بتحديات المرحلة، من الأمن الغذائي إلى الانتقال الطاقوي، ومن الرقمنة إلى البيئة. هذه القضايا تحوّلت إلى ملفات مشتركة بين الدول، ما يجعل من القمم الحكومية منصة استراتيجية للتخطيط المشترك لمواجهة التحديات العابرة للحدود. كما تعكس هذه القمة توازنًا ملحوظًا في العلاقات، حيث جاء الطرف الجزائري بوفد وزاري قوي، حاملًا لرؤية واضحة حول أولويات التنمية والاستثمار، ما عزز من مكانة الجزائر كطرف فاعل وليس تابعًا في هذه العلاقة. ويُنتظر أن تشكل هذه القمة، نقلة جديدة في تسيير الشراكة، من خلال تأسيس منهجية تعاون جديدة تقوم على التقييم الدوري، والانفتاح على مجالات غير تقليدية، وتوسيع قاعدة الشراكة لتشمل الجهات المحلية والقطاع الخاص والمؤسسات الناشئة.

 

لقاءات رفيعة بين القصر الرئاسي و”فيلا بامفيلي”

توزعت محطات زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى روما بين رمزية الاستقبال ومضمون اللقاءات الثنائية التي جمعت بين أعلى السلطات في البلدين، من القصر الرئاسي “كورينالي” إلى مقر رئاسة الوزراء “فيلا دوريا بامفيلي”، ما يعكس تعدد مستويات التنسيق بين الجزائر وإيطاليا. فهذه الزيارة لم تقتصر على البروتوكولات بل حملت طابعًا عمليًا وتجسدت في محادثات مباشرة بين الرئيس تبون والرئيس سيرجيو ماتاريلا، تلتها مشاورات أوسع مع رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. اللقاء الأول مع الرئيس الإيطالي، الذي تم في أجواء رسمية حافلة بالدلالات، فتح المجال لتناول قضايا استراتيجية تتجاوز الثنائية إلى ما هو إقليمي ودولي، وفي مقدمتها الملف الليبي، والهجرة غير النظامية، والطاقة، والأمن في الساحل. وهي قضايا تجمع البلدين على مقاربة قائمة على الحوار والبحث عن حلول دائمة تراعي مصلحة شعوب المنطقة، مع حرص الطرفين على الدفع بالدبلوماسية العقلانية بدل التدخلات الأحادية. أما اللقاء الذي جمع الرئيس تبون برئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، فحمل طابعًا عمليًا وتنفيذيًا، حيث دار الحديث حول مواصلة تفعيل المشاريع المبرمجة، وتسريع تنفيذ الاتفاقيات التي تم توقيعها في السنوات الأخيرة، والتوجه نحو شراكات جديدة في القطاعات الواعدة، مثل الرقمنة والطاقات المتجددة. وقد بدا واضحًا خلال هذا اللقاء وجود تطابق في الرؤية بين القيادتين بشأن ضرورة تطوير الشراكة على أسس متوازنة ومستدامة. هذه اللقاءات عكست أيضا ارتياح الطرفين لمستوى الثقة السياسية بين الجزائر وروما، وهو ما يؤكده تواتر الزيارات رفيعة المستوى بين العاصمتين خلال السنتين الأخيرتين. كما أظهرت الزيارة حرص إيطاليا على الحفاظ على علاقة خاصة مع الجزائر، باعتبارها شريكًا موثوقًا ومصدر استقرار في الضفة الجنوبية للمتوسط. في السياق ذاته، أظهرت تصريحات مسؤولي البلدين بعد اللقاءات توافقًا حول توسيع آفاق التعاون ليشمل قضايا جديدة ذات بعد إنساني واجتماعي، مثل حماية ذوي الهمم، والتعاون في مجال مكافحة الحرائق، ما يعكس بُعدًا إنسانيًا في العلاقات الثنائية يتجاوز المنفعة الاقتصادية. وبذلك، جسدت اللقاءات الثنائية ديناميكية دبلوماسية تتأسس على تقارب الرؤى السياسية، وتوجه نحو بناء تحالف متوسطي متوازن يراعي مصالح البلدين ويؤسس لمستقبل مشترك.

 

منتدى الأعمال.. من الطاقة إلى السينما، توسع في مجالات التعاون

لم يكن منتدى الأعمال الجزائري-الإيطالي، المنعقد على هامش زيارة الرئيس تبون، فعالية جانبية كما جرت العادة في بعض الزيارات الرسمية، بل كان محطة محورية جسّدت بوضوح روح الشراكة الجديدة التي تسعى الجزائر وإيطاليا إلى ترسيخها. فالمنتدى، الذي أشرف عليه وزير الخارجية أحمد عطاف ونظيره الإيطالي أنطونيو تاياني، جمع عشرات المتعاملين الاقتصاديين من كلا البلدين، في قطاعات متنوعة لم تعد تقتصر على النفط والغاز، وإنما امتدت إلى الزراعة، النقل، الصناعة، البنى التحتية، وحتى الثقافة والإنتاج السينمائي. هذا التنوع في القطاعات، يدل على وعي الطرفين بضرورة تجاوز النموذج التقليدي للتعاون، الذي كان في الماضي يُختزل في ملف الطاقة. فالجزائر، التي تسعى إلى تنويع اقتصادها، وجدت في إيطاليا شريكًا مستعدًا للاستثمار في قطاعات الإنتاج والتحويل، بينما ترى روما في الجزائر سوقًا واعدة ومحورًا لوجستيًا للتوسع نحو إفريقيا. كما تميز المنتدى بطابع عملي، من خلال ورشات مباشرة بين الشركات، وعرض مشاريع جاهزة للاستثمار، ومرافقة من الوكالات الرسمية في البلدين. وهو ما يعكس نقلة نوعية في أسلوب العمل، من الحوارات العامة إلى المشروعات الميدانية. وقد أبرزت الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار من خلال مداخلاتها مزايا مناخ الأعمال الجديد في الجزائر، والحوافز الممنوحة للمستثمرين، ووفرة الموارد، خاصة في القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية. اللافت أيضًا، هو بروز ملفات غير تقليدية ضمن أجندة التعاون، على غرار الإنتاج السينمائي المشترك، والذي تم دعمه باتفاقية رسمية، تعكس رغبة البلدين في توظيف القوة الناعمة لتعزيز التقارب بين الشعوب، وفتح آفاق للابتكار والصناعات الثقافية. ويُحسب لهذا المنتدى أنه لم يكن مجرد واجهة سياسية للزيارة، بل منصة اقتصادية حقيقية، أنتجت حوارًا صريحًا بين رجال الأعمال، وقدّمت أرضية لعقد شراكات متوازنة، خاصة مع ارتفاع اهتمام الشركات الإيطالية بالسوق الجزائرية، ووضوح الرؤية السياسية الداعمة لهذا التقارب. وبذلك، يمكن القول إن منتدى الأعمال مثل مرآة تعكس التحول في طبيعة العلاقات الجزائرية-الإيطالية، من علاقة تقليدية تُبنى على تصدير المواد الخام، إلى علاقة قائمة على الاستثمار المتبادل، وقيمة مضافة حقيقية لصالح الطرفين.

 

اتفاقيات شراكة ومذكرات تفاهم.. خارطة طريق جديدة للتعاون الثنائي

شكّلت مراسم التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين الجزائر وإيطاليا، إحدى المحطات الأهم في زيارة الرئيس تبون إلى روما، باعتبارها المخرجات العملية المباشرة للقمة الحكومية الخامسة والمنتدى الاقتصادي المشترك. ولم تكن هذه الاتفاقيات رمزية أو عامة، بل مست قطاعات حيوية، بعضها تقليدي كالفلاحة والطاقة، وبعضها جديد وواعد كالبريد والاتصالات والإنتاج السينمائي، ما يعكس اتساع أفق التعاون الثنائي وتنوعه. من أبرز ما تم التوقيع عليه، اتفاق ثنائي في مجال الزراعة والصيد البحري، يعكس إدراك الطرفين لأهمية الأمن الغذائي، خصوصًا في سياق عالمي يتسم بعدم الاستقرار. كما وقع الجانبان، مذكرة تفاهم بين الشركة الإيطالية لتعزيز الاستثمار والوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، وهي خطوة تؤسس لمرافقة فعلية للمشاريع وتيسير الربط بين رجال الأعمال من الجانبين. أما في مجال الطاقة، فقد تم توقيع بروتوكول تفاهم بين مجمع سوناطراك وشركة إيني الإيطالية، يؤكد استمرارية التعاون الاستراتيجي بين الطرفين في مجال الغاز، ويعزز مكانة الجزائر كمزود موثوق للطاقة، في وقت يشهد فيه السوق الأوروبي تقلبات حادة منذ أزمة أوكرانيا. لكن المفاجئ في قائمة الاتفاقيات كان توقيع مذكرة تفاهم في مجال الإنتاج السينمائي، وهو ما يُعد مؤشرًا قويًا على إرادة البلدين في تعزيز التبادل الثقافي، وتوظيف الصناعات الإبداعية كجسر للتواصل بين الشعوب. كما تميزت الاتفاقات ببعد اجتماعي وإنساني، من خلال مذكرة تفاهم لحماية الأشخاص ذوي الهمم، وأخرى لمكافحة الحرائق، ما يُبرز انشغالًا مشتركًا بالقضايا المجتمعية والبيئية. الأهمية الحقيقية لهذه الاتفاقيات، تكمن في كونها تتوج مسارًا من التنسيق الثنائي، وتفتح باب التنفيذ الفعلي لمشاريع ملموسة في الميدان. كما تعكس نضج العلاقة بين البلدين، التي باتت تقوم على المصالح المشتركة والتنفيذ العملي بدل الاكتفاء بالوعود السياسية. إن هذه الاتفاقات، تؤسس لـ”خارطة طريق جديدة” في العلاقات الجزائرية-الإيطالية، تنطلق من القطاعات الحيوية إلى مجالات المستقبل، وتُدار بروح براغماتية قائمة على الفعل والتقييم، ما يمنحها فرصًا حقيقية للنجاح والاستدامة.

 

الجزائر وإيطاليا.. شراكة متوسطية أم تحالف استراتيجي طويل الأمد؟

أظهرت زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى إيطاليا، بكل محطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، أن العلاقة بين الجزائر وروما لم تعد تُقرأ ضمن مقولات التعاون الكلاسيكي أو التقارب الظرفي، بل تتجه نحو ما يشبه التحالف المتوسطي المتكامل، القائم على الثقة والتوازن والتقاطع الاستراتيجي في الرؤى والمصالح. فما يجمع البلدين اليوم يتجاوز اعتبارات الجغرافيا والمصالح الاقتصادية إلى ما هو أعمق: تنسيق في ملفات الأمن الإقليمي، توافق على مقاربات الهجرة، وشراكة في رسم ملامح المرحلة الانتقالية في منطقة المتوسط. إيطاليا، التي تضع الجزائر على رأس شركائها في الضفة الجنوبية، باتت تنظر إلى الجزائر باعتبارها “شريك استقرار” في محيط مضطرب. أما الجزائر، فهي تسعى من خلال هذه العلاقة إلى تنويع تحالفاتها، والخروج من دائرة الارتهان لأسواق محددة، وبناء علاقات متوازنة مع القوى الأوروبية في إطار الاحترام المتبادل. ومن هذا المنظور، تبدو روما أقرب إلى فهم متطلبات الجزائر الجديدة من عواصم أوروبية أخرى ما زالت أسيرة ماض استعماري أو منطق غير متكافئ. كما أن ما يدعم هذا التوجه، هو تعدد مجالات التعاون، وتوسّع نطاق الاتفاقيات، وانفتاح العلاقة على بعد ثقافي وإنساني يعزز من أواصر الثقة بين الشعوب، وهي عناصر ضرورية لتحصين أي تحالف بعيد المدى من التغيرات السياسية والظروف الاقتصادية الطارئة. لكن نجاح هذا التحالف المتوسطي، يظل مرهونا بمدى التزام الطرفين بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وتفعيل آليات التقييم الدوري، وفتح قنوات جديدة للمبادلات، تشمل الجامعات ومراكز الأبحاث والمجتمع المدني، بما يمنح العلاقة طابعًا شعبيًا ومجتمعيًا، لا رسميًا فقط. وإذا ما استمر هذا النسق من التنسيق والتفاهم، فإن الجزائر وإيطاليا مرشحتان لتكونا قطبين فاعلين في إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط، ليس فقط عبر الطاقة والتجارة، ولكن أيضًا من خلال تقديم نموذج جديد في الشراكة العادلة والمتعددة الأبعاد.