من الدوحة.. خطاب يكرّس العدالة ويُعيد ترتيب أولويات التنمية

الجزائر.. نموذج الرعاية الاجتماعية الجديدة

الجزائر.. نموذج الرعاية الاجتماعية الجديدة
  • سياسة ثابتة من دعم الفئات الهشة إلى توسيع التغطية الصحية

  • تمكين المرأة والشباب.. محركات التحول الاجتماعي

  • الرقمنة والذكاء الاصطناعي في خدمة العدالة الاجتماعية

قدّمت الجزائر، في مداخلتها خلال القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية بالدوحة، رؤية شاملة تُظهر كيف تمتدّ العدالة الاجتماعية من نصوص الدستور إلى سياسات عملية تعيد تشكيل مفهوم دولة الرعاية، في وقت يواجه فيه العالم تحولات اقتصادية وجيوسياسية عميقة.

وبين استعراض إصلاحات واسعة تمسّ المعيشة والصحة والطفولة والمرأة والشباب، وإبراز التزام راسخ بقيم السلم وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بدا واضحا أن الجزائر تسعى إلى تقديم نموذج متوازن يربط بين التنمية الداخلية والموقف الأخلاقي في السياسة الدولية، ويرسّخ صورة بلد يزاوج بين العدالة والحداثة دون التخلي عن ثوابته الوطنية. تضع الجزائر العدالة الاجتماعية في قلب هندسة سياساتها العمومية، باعتبارها مبدأً دستوريا قبل أن تكون توجها حكوميا أو برنامجا ظرفيا. فالكلمة الرسمية في قمة الدوحة تُظهر بوضوح أن الدولة جعلت من “المساواة بين الجميع” و“إدماج الفئات الهشة وذوي الاحتياجات الخاصة” التزاما مُلزِما منصوصا عليه في الدستور، وليس مجرد شعار سياسي. هذا التأسيس القانوني يمنح العدالة الاجتماعية صفتها الجوهرية داخل المشروع الوطني، ويجعلها معيارا للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي، خصوصا في ظرف عالمي تتراجع فيه الأولويات الاجتماعية لصالح هواجس السوق. ولا يتحقق هذا المسعى من خلال النصوص فقط، بل عبر شبكة مؤسساتية واسعة تضم المجتمع المدني، وهيئات الشباب، والمؤسسات المعنية بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إضافة إلى آليات حقوق الإنسان. وقد ركّزت الجزائر في خطابها على أن هذه المؤسسات أدوات عملية لضمان “صون الكرامة الإنسانية” وتنفيذ سياسات الإدماج والحماية الاجتماعية على الأرض. هكذا تتحول العدالة الاجتماعية من مبدأ نظري إلى ممارسة يومية، تتوزع أدوارها بين الدولة والمجتمع، وتعكس رؤية متكاملة لبلد يسعى إلى التطوير دون التخلي عن مسؤولياته الاجتماعية.

 

تحسين المعيشة ومحاربة الفقر.. إجراءات اجتماعية تعيد رسم أولويات الدولة

وتتبنى الجزائر مقاربة اجتماعية واضحة تقوم على تحويل الوعود إلى إجراءات ملموسة تستهدف مختلف الفئات، خصوصا الأكثر هشاشة. ففي كلمتها الرسمية، شددت على أنّ تحسين المعيشة ومحاربة الفقر لم يعودا شعارين عامّين، بل سياسة قائمة على حزمة من القرارات أبرزها رفع الأجر الوطني الأدنى المضمون، واستحداث منحة البطالة لأول مرة لفائدة الشباب طالبي العمل، وهي خطوة وُصفت حينها بالتحوّل الاجتماعي الأكبر منذ سنوات. كما شملت العملية مراجعة الأجور والمعاشات، وإعفاء الدخل المنخفض من الضرائب لتخفيف العبء عن مئات الآلاف من الأسر، إضافة إلى توسيع منحة التضامن بما يضمن وصول الدعم إلى الفئات الهشة وذوي الإعاقة. وتتوسع هذه الحماية لتشمل كبار السن عبر مجانية العلاج والنقل، والاعتراف برمزيتهم الوطنية من خلال تخصيص يوم 27 أفريل للاحتفاء بهم. هذه التدابير مجتمعة تعكس رؤية دولة تريد تثبيت شبكة أمان اجتماعي واسعة، تستجيب للتحولات الاقتصادية وتحصّن المجتمع ضد تقلبات السوق. ومن خلال هذا النسق المتكامل، تُظهر الجزائر أنها تتعامل مع محاربة الفقر كملف استراتيجي يتطلب قرارات عملية لا خطابات موسمية، وأن تحسين المعيشة جزء لا يتجزأ من مشروعها التنموي الشامل.

 

توسيع التغطية الاجتماعية والصحية.. منظومة تضامن تعزّز دولة الرعاية

Peut être une image de texte

وفي امتداد مسار الإصلاحات الاجتماعية، وسّعت الجزائر نطاق التغطية الصحية ليشمل فئات لم تكن تستفيد من منظومة الحماية سابقا، مثل الطلبة والعاطلين عن العمل والمصابين بالأمراض المزمنة. هذا التوسيع يعكس توجها واضحا نحو ترسيخ نموذج دولة الرعاية، حيث تُوفَّر مجانية العلاج في المؤسسات العمومية، ويتكفّل الضمان الاجتماعي بنفقات العلاج في القطاع الخاص، بما يضمن عدم ترك أي مواطن خارج منظومة الرعاية الصحية الأساسية. وتأتي هذه المقاربة منسجمة مع رؤية شاملة تجعل الصحة عنصرا مركزيا في العدالة الاجتماعية. وإلى جانب ذلك، يبرز حرص الجزائر على تعزيز وسائل التكفل بالفئات الأكثر هشاشة، من خلال تحسين جودة الخدمات الصحية، وتوسيع التغطية نحو المناطق النائية، ودمج الصحة في استراتيجية التنمية الاجتماعية. هذا التوجه، كما يظهر في الكلمة الرسمية، يجسّد “سعياً لتحقيق التغطية الاجتماعية الشاملة”، وهو رهان تسعى الدولة إلى تعزيزه بوتيرة ثابتة، انسجاما مع التحولات الديموغرافية والاقتصادية، ومع متطلبات بناء مجتمع أكثر توازنا وقدرة على مواجهة التحديات الصحية والاجتماعية.

 

تمكين المرأة وحماية حقوقها.. إصلاحات واقعية

تمكين النساء في الجزائر مسار حافل بالمكاسب - الإخبارية

وتتقدم مسألة تمكين المرأة كواحد من أبرز المحاور التي ركّزت عليها الجزائر في خطابها، حيث تم تقديمها ليس باعتبارها ملفا اجتماعيا فحسب، بل رافعة تنموية أساسية. فالإصلاحات التي صادقت عليها الدولة خلال السنوات الأخيرة جاءت لتعزز المساواة الحقيقية في الأجور والفرص والمشاركة السياسية، مع ضمان الحقوق المدنية عبر مبدأ المساواة في منح الجنسية وتمديد عطلة الأمومة إلى 150 يوما. كما شكّل استحداث صندوق النفقة خطوة متقدمة لحماية النساء المطلقات وأطفالهن، في تجسيد فعلي لمفهوم العدالة الاجتماعية التي تَعتبر الأسرة نواة الاستقرار الاجتماعي. ويمتد هذا التوجه إلى المجال الاقتصادي، حيث توفر الدولة أجهزة تمويل متعددة لتمكين المرأة من إطلاق مشاريعها الخاصة، بما يجعلها فاعلا اقتصاديا كاملا لا مستفيدة فقط من آليات الدعم. وفي المجال النقابي والمهني، ساهمت التشريعات في تعزيز حضور المرأة في مواقع المسؤولية، مما يعكس رؤية دولة تسعى، وفق الكلمة الرسمية، إلى “تبني إصلاحات شاملة ضمنت المساواة في الأجور والفرص والمشاركة السياسية”. هذا المسار المترابط بين الحماية الاجتماعية والتمكين الاقتصادي يعزز بنية مجتمع أكثر توازنا وقدرة على تحويل المساواة من نصوص قانونية إلى ممارسة يومية.

 

حماية الطفولة.. ركيزة دولة تراهن على الإنسان منذ سنواته الأولى

اليوم العالمي للطفولة : جهود متواصلة في مجال حماية وترقية الطفولة - يومية  الاتحاد الجزائرية

ويمتد التزام الجزائر بالعدالة الاجتماعية إلى الفئات الأكثر حساسية، حيث برز ملف حماية الطفولة كأحد المحاور التي أكدت عليها الكلمة الرسمية بوصفه استثمارا في مستقبل الأمة. فقد استفاد هذا العام ما يقارب 12 مليون تلميذ من مجانية التعليم والدعم المدرسي والنقل والتغذية والتغطية الصحية، وهو رقم يعكس عمق الرؤية الاجتماعية التي تجعل من المدرسة فضاءً للإنصاف وليس مجرّد مؤسسة تعليمية. كما جاء إنشاء الهيئة الوطنية لحماية وترقية الطفولة ليُؤطّر هذه الجهود ويحوّلها من مبادرات قطاعية إلى سياسة متكاملة تحمي الطفل من الهشاشة وتضمن حقوقه الأساسية. ولا ينفصل هذا الاهتمام عن مشروع الدولة في بناء مجتمع متماسك، إذ يُنظر للطفل باعتباره الحلقة الأولى في سلسلة الاندماج الاجتماعي، وفي ذات الوقت الضحية الأولى لأي اختلالات اقتصادية أو اجتماعية. ومن خلال توسيع مظلة الحماية وتوفير خدمات مجانية في قطاعات التعليم والصحة والنقل، تعمل الجزائر على رفع العوائق التي تواجه الأطفال من مختلف الطبقات، بما يضمن تكافؤ الفرص ويعزز الارتقاء الاجتماعي. هكذا يتحول دعم الطفولة من سياسة ظرفية إلى خيار استراتيجي تلتزم به الدولة ضمن تصور شامل للحماية الاجتماعية.

 

تشغيل الشباب والتحول الاقتصادي.. مسار إصلاحي يواكب متطلبات سوق العمل

ويمتد أثر السياسات الاجتماعية الجزائرية إلى واحد من أكثر الملفات حساسية: التشغيل وتمكين الشباب. فالكلمة الرسمية، أبرزت أن الدولة انتقلت من منطق معالجة البطالة إلى منطق إعادة هندسة سوق العمل عبر إصلاحات هيكلية، في مقدمتها إصدار قانون استثمار جديد يقوم على الشفافية وتبسيط الإجراءات، بما يتيح خلق بيئة أكثر جذبا للمؤسسات والمشاريع الناشئة. كما تم توجيه جهود واسعة نحو دعم روح المبادرة عبر أجهزة تمويل متعددة، والربط بين التكوين المهني واحتياجات الاقتصاد الحقيقي، ضمانا لاندماج أفضل في سوق العمل الذي يشهد تطورا متسارعا. وتتقدم الجزائر في هذا المجال برؤية تضع المقاولاتية والابتكار كرافعتين أساسيتين للتشغيل، عبر تشجيع المشاريع المبتكرة وتوفير مسارات تمويل تراعي خصوصية الشباب، إلى جانب الاستثمار في الشركات الناشئة باعتبارها أحد محركات النمو الجديدة. ويعكس هذا التوجه قناعة مفادها أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا ينفصل عن خلق اقتصاد مُولّد للثروة ومناصب الشغل، وأن تمكين الشباب ليس مجرد إجراء اجتماعي بل خيار اقتصادي استراتيجي يسمح بإطلاق طاقات جديدة تدعم التحول الاقتصادي للبلاد.

 

التحول الرقمي وتحديث منظومة الحوكمة

كما يمثل التحول الرقمي، أحد أبرز المسارات التي شددت الجزائر على تسريعها ضمن رؤيتها للتنمية الاجتماعية المستدامة، إذ اعتبرت أن تحديث أدوات الدولة بات ضرورة لضمان عدالة رقمية تحفظ حقوق المواطن وتمنح الجميع فرصا متساوية في الوصول إلى الخدمات. وفي هذا الإطار، ذكّر الخطاب بأن الجزائر أعلنت سنة 2023 “سنة وطنية للذكاء الاصطناعي”، في خطوة تعكس إرادة سياسية واضحة لإدماج التكنولوجيات المتقدمة ضمن منظومة التسيير العمومي، وتوجيهها لخدمة الأهداف الاجتماعية، من خلال تحسين فعالية المؤسسات وتعزيز الشفافية وتسهيل الرقمنة الشاملة لمختلف القطاعات. وترافق هذا التوجّه، مع التزام صريح بالمبادئ الدولية السبعة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها ضمان “العدالة الرقمية” وحماية سيادة البيانات باعتبارهما أساس الثقة في البيئة الرقمية. فالجزائر، وفق ما جاء في الكلمة الرسمية، تنظر إلى الرقمنة كركيزة لتحقيق إنصاف اجتماعي أطول مدى، يتيح إدماج الشرائح المختلفة دون تمييز، ويؤسس لاقتصاد معرفي أكثر قدرة على مواجهة التحولات الدولية المتسارعة.

 

التمسّك بقيم السلم وحق الشعوب في تقرير مصيرها

وفي انتقال طبيعي من الجوانب الاجتماعية إلى المبادئ التي تؤطر السياسة الخارجية، شددت الجزائر في مداخلتها على أن الالتزام بالعدالة لا يكتمل دون الدفاع عن حق الشعوب في الحرية والكرامة. ولهذا ذكّر وفدها بأن “التمسك بقيم السلم والتعايش واحترام القانون الدولي” يعد ثابت من ثوابت الدولة الجزائرية منذ استقلالها. فحق تقرير المصير، وفق الرؤية الجزائرية، يظل “ركنًا أساسيا من أركان العدالة وحقوق الإنسان”، وهو ما جعل الجزائر ترافع باستمرار لصالح القضايا العادلة عبر المنابر الإقليمية والدولية. وفي سياق التحولات الدولية الراهنة، حرصت الجزائر على التأكيد بأن دعمها لحقوق الشعوب جزء من مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية تجاه العالم. فعبر تمسكها بمبادئ الشرعية الدولية وحماية الشعوب التي تواجه الاحتلال أو الحرمان من حقها في بناء مستقبلها، تقدم الجزائر نفسها كشريك “فعّال ومسؤول في الجهود الدولية الرامية إلى تحقيق التنمية المستدامة وبناء عالم أكثَر عدلاً وتضامناً وإنسانية”. وبهذا تربط الجزائر بين المسار الداخلي القائم على الإنصاف، ومسار خارجي يرسخ ثقافة السلم والاحترام المتبادل.