في مشهد مروّع اختلط فيه الدبلوماسي بالإنساني، رفع الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، عمار بن جامع، صورا لأطفال فلسطينيين لفظوا أنفاسهم الأخيرة جوعا، وسط صمت دولي رهيب، ليحمل بذلك فاجعة غزة إلى قاعة مجلس الأمن كنداء ضمير يجبر العالم على النظر في عيني الجوع والموت.
الصور التي رفعها السفير الجزائري، كانت صرخة بوجه الإنسانية المُنتقاة، ورسالة مفادها أن ما يجري في غزة ليس صدفة ولا عارضا من عوارض الحروب، وإنما هي إبادة ممنهجة تُنفَّذ بإحكام وبدم بارد، وبصمتٍ دولي يتواطأ إما بالعجز أو بالمحاباة. مشهد صور الأطفال الجوعى في قاعة مجلس الأمن، كان فعلا سياسيا واعيا، حمل في طياته إدانة صريحة لما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة من حصار شامل يُستخدم فيه التجويع كسلاح إبادة جماعية. فالتجويع، كما أبرزته كلمة السفير الجزائري، تحوّل إلى سياسة ممنهجة تُدار بحسابات دقيقة، تُقطع فيها الكهرباء والماء، وتُمنع فيها المساعدات، ويُحاصر فيها الغذاء، في خرق صارخ لكل المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف التي تحرّم استخدام الحصار ضد المدنيين وتعتبره جريمة حرب. لقد أعاد السفير بن جامع، وضع النقاش في مجلس الأمن على سكّته الأخلاقية، حين ذكّر بأن الحق في الغذاء حق مقدس وليس امتيازا، منصوص عليه في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهو بذلك لم يخاطب فقط ممثلي الدول الكبرى، بل وجّه خطابه إلى الضمائر، إلى الإنسانية التي يُفترض أنها لا تُجزَّأ ولا تخضع لموازين القوى. ففي ظل وجود دول تتهرب من الإدانة وتتعامل مع المأساة بمنطق “التوازن”، جاءت كلمة الجزائر لتكسر هذا التوازن الزائف، وتُسمّي الأشياء بمسمياتها، دون تردد أو مواربة. المفارقة أن من دعا إلى هذه الجلسة لم يكن طرفا محايدا أو ضحية، بل كان هو الجلّاد، كما أشار السفير بصيغة لاذعة: “الاحتلال هو من طلب الجلسة… وهو من ينكر المجاعة”. وهنا برز الموقف الجزائري كحالة فريدة في المحفل الدولي، حيث لم تكتف الجزائر بإدانة الحصار لفظيا، إذ قدّمت مرافعة قوية تربط بين السياسة والجريمة، وتضع الاحتلال في قفص الاتهام كفاعلٍ مسؤول عن جريمة متكاملة الأركان. وفي الوقت الذي اختارت فيه العديد من الدول أن تختبئ خلف عبارات عامة من قبيل “الوضع الإنساني مقلق” أو “يجب احترام القانون الدولي”، اختارت الجزائر أن تضع إصبعها على الجرح، وأن تنقل صور الجوعى إلى المنبر الأعلى في العالم، لتجعل من تلك الصور وثيقة اتهام أمام الضمير العالمي. وما فعلته الجزائر هنا يُقاس بشجاعة الطرح، وبوضوح الرؤية التي ترى في التجويع سياسة لا تقل وحشية عن القصف، بل تفوقه أحيانا في قدرتها على كسر الشعوب من الداخل. هكذا، فتح بن جامع الباب لنقاش أكثر عمقا حول استخدام الغذاء كسلاح في النزاعات المسلحة، وحرّك المياه الراكدة في مجلسٍ غالبا ما يغرق في الحسابات السياسية ويغفل عن المآسي البشرية. لقد قالها السفير بصوت عالٍ: “نشهد أسوأ السيناريوهات في غزة”، والرسالة كانت واضحة – ما يحدث ليس فوضى حرب، وإنما هي هندسة موت.
صمت دولي يُغذّي الجريمة.. والمعايير المزدوجة تقتل
وما يجعل هذه الجريمة أكثر فظاعة هو الصمت الدولي الذي يحيط بها، وكأن الأرواح التي تُزهق جوعًا لا تستحق ضجيج الإدانات. فالمشهد في مجلس الأمن كان ساحة فضح للاحتلال، وأيضا مرآة تعكس ازدواجية المعايير التي تحكم مواقف القوى الكبرى، حيث تُرفع الشعارات الإنسانية عندما تقتضي المصلحة، وتُغضّ الأبصار حين يكون الجلاد حليفا استراتيجيا. في هذا السياق، جاءت كلمة السفير الجزائري لتقطع مع هذا النفاق الدولي، وتعلن بوضوح أن الإنسانية لا يمكن أن تكون انتقائية، وأن الضمير الحي لا يساوم على الكرامة. الجزائر، في مداخلتها، طرحت سؤالا صادما وغير مباشر على المجتمع الدولي: كيف يمكن للعالم أن ينكر مجاعة تتحدث عنها صور الجثث الهزيلة؟ كيف يمكن لمنظمات أممية أن تدق ناقوس الخطر، ثم لا تجد آذانا مصغية من بعض صناع القرار؟ لقد وضعت الجزائر مجلس الأمن أمام مسؤولياته، مذكرةً بأن ما يُطلب للفلسطينيين هو نفسه ما يُطالب به لجميع الشعوب، دون تمييز في الدين أو العرق أو الانتماء، في إشارة واضحة إلى أن القضية الفلسطينية باتت مقياسا لاختبار مصداقية القيم الكونية. وما يزيد المشهد قسوة هو أن الاحتلال نفسه، كما لفت السفير بن جامع، هو من دعا إلى الجلسة ثم أنكر المجاعة، في محاولة مفضوحة للسيطرة على سردية الضحية والجاني. هذا الإنكار لا يمكن فصله عن الدعم السياسي والإعلامي الذي يتلقاه الاحتلال من قوى غربية تسوّق مزاعم “حق الدفاع عن النفس”، بينما يتساقط الأطفال صرعى الجوع والمرض. وسط هذا التواطؤ، برز الموقف الجزائري بوصفه صوتا لا ينكسر ولا يخضع، يقف على مسافة واحدة من كل الضحايا، لكنه لا يساوي بين الجلاد والضحية. المعايير المزدوجة باتت سلاحا سياسيا يُستخدم لشرعنة التجاوزات وتبرير القتل، وهو ما حاولت الجزائر كسره عبر لغة واضحة لا تعرف الالتفاف: “لا نقيس قيمة الإنسان بدينه أو لونه”. بهذا التصريح، فتحت الجزائر جبهة مواجهة جديدة، مع كل منظومة الصمت التي تتذرع بـ”التعقيد السياسي” لتبرير الإحجام عن الفعل.
الإغاثة المحاصرة.. والممرات الإنسانية رهينة الحسابات
وبعد أن أماطت الجزائر اللثام عن الجريمة الأصلية المتمثلة في التجويع المتعمّد، وكشفت تواطؤ الصمت الدولي في شرعنة الإبادة، انتقل النقاش في مجلس الأمن إلى قضية لا تقل خطورة: الإغاثة الإنسانية التي باتت هي الأخرى ضحية للحصار، خاضعة لمنطق التفاوض والمساومة، بدل أن تكون استجابة بديهية لنداء الحياة. فقد بيّن السفير بن جامع، بلغة مباشرة، أن “عمليات الإسقاط الجوي ليست حلا كافيا”، مشددا على أن المعابر البرية لا تزال مغلقة، وأن ما يُقدم للقطاع لا يلبّي إلا جزءا ضئيلا من الحاجات الفعلية. وهكذا، تحوّل العمل الإغاثي إلى ما يشبه ذر الرماد في العيون، يُستخدم لتجميل الواقع لا لتغييره. الوضع الميداني، يؤكد هذه الرؤية الجزائرية بشكل دقيق. فالأمم المتحدة نفسها اعترفت، عبر بيانات وكالاتها المتخصصة، بأن المساعدات التي تدخل غزة “غير كافية بشكل كارثي”، كما أقرّت بأن الشاحنات التي يُسمح لها بالعبور لا تمثّل إلا قطرة في محيط الاحتياجات. ففي الوقت الذي يحتاج فيه القطاع إلى ما لا يقل عن 600 شاحنة يوميا لتأمين الحد الأدنى من المساعدات، بالكاد تدخل عشر هذا العدد، إن لم يكن أقل. والأسوأ من ذلك، أن دخول هذه الشحنات يخضع لإملاءات سياسية وميدانية، ويُستخدم أحيانا كورقة تفاوض مرتبطة بملف المحتجزين أو بضغط الرأي العام. أمام هذا الواقع، بدا صوت الجزائر في مجلس الأمن مختلفا بوضوح، ليس فقط من حيث النبرة، وإنما أيضا من حيث المضمون. فالجزائر طالبت بفتح كامل للممرات والمعابر، ودعت إلى تحرير العمل الإنساني من أي قيد سياسي أو تفاوضي، مستندة إلى القانون الدولي الإنساني، وخصوصا اتفاقيات جنيف التي تعتبر “الوصول الإنساني” التزاما قانونيا لا يجوز استخدامه كورقة مساومة. هذا الطرح الحازم يعكس فهما عميقا لخطورة ترك العمل الإنساني رهينة التلاعب، خاصة في وضع يشهد انهيارا ممنهجا في البنية الصحية والغذائية. ومن اللافت أن موقف الجزائر لم يكن فقط دفاعا عن الفلسطينيين، بل دفاعا عن مبدأ إنساني عالمي، يُفترض أن يحكم العلاقة بين الدول والمنظمات الأممية، بعيدا عن التجاذبات. فقد ذكّر السفير بن جامع، ضمنا، بأن استمرار هذا الوضع يشكّل خطرا على غزة وعلى مصداقية النظام الدولي بأكمله، لأنه يؤسس لسابقة مفزعة: أن يتم تجويع شعب كامل، ثم يُترك أمر إنقاذه لتقديرات من يمارس عليه الحصار أصلا. إن ما طرحته الجزائر في هذا السياق يطرح بدوره تساؤلا محوريا: ما جدوى القانون الدولي إذا لم يتم تفعيله في وجه الجريمة؟ وما قيمة المبادئ الإنسانية إذا كانت لا تُطبّق حين يكون الضحايا من الفلسطينيين؟ هنا، كان الموقف الجزائري محاولة حقيقية لإعادة الاعتبار إلى القانون، وردّ الاعتبار للإنسان، أيًا كان موقعه. ومع كل يوم يمر، تتضاعف الحاجة إلى هذا النوع من الأصوات التي لا تقف فقط عند حدود الإدانة، وإنما تمتد لتفضح أيضا آليات التعطيل والخذلان.
دعوة جزائرية لوقف فوري لإطلاق النار.. من الإغاثة إلى إنقاذ الإنسانية
وانطلاقا من إدراكها العميق بأن تجويع الشعوب لا يمكن فصله عن سياق الحرب الشاملة، لم تقف الجزائر في مجلس الأمن عند حدود المطالبة بتحسين تدفّق المساعدات أو فتح المعابر فقط، وذهبت إلى جوهر الأزمة، مُجدّدة دعوتها الحازمة إلى وقف فوري، غير مشروط، ودائم لإطلاق النار في قطاع غزة. بالنسبة للجزائر، فإن الحديث عن الإغاثة لا يكتمل دون إنهاء العدوان، لأن استمرار القصف يعني ببساطة تقويض كل محاولات الإنقاذ، بل وتحويل الشاحنات القليلة التي تدخل إلى أهداف محتملة. لقد أرادت الجزائر أن تذكّر العالم بأن الإنسانية لا تُقاس فقط بعدد وجبات الغذاء التي تصل، بل بوقف آلة الحرب التي تحوّل الأطفال إلى أرقام وصور دامعة. هذه الدعوة الجزائرية، جاءت محمّلة بإلحاح إنساني، مدعومة بأرقام صادمة أفصح عنها السفير بن جامع في نهاية كلمته: 180 شخصا قضوا جوعا في يوم واحد، من بينهم 93 طفلا. لا تحتاج هذه الأرقام إلى تعليق، فهي بذاتها جريمة كاملة الأركان، تُعرّي كل الخطابات المضللة التي تبرر استمرار العدوان تحت شعارات زائفة. ومن خلال استحضار هذه الأرقام في قلب مجلس الأمن، حرصت الجزائر على قلب المعادلة: فبدل أن يُطلب من الضحايا تبرير حقهم في الحياة، طُلب من العالم أن يفسر صمته على الموت. اللافت في الخطاب الجزائري، أنه لم يطرح وقف إطلاق النار كتنازل أو كهدنة مؤقتة تخضع للمساومات، بل كواجب أخلاقي وقانوني لا يقبل الشروط، لأنه يتعلّق بإنقاذ أرواح بشرية تُباد أمام أعين العالم. الجزائر تعلم، كما يعلم الجميع، أن أي تأخير في وقف إطلاق النار سيُترجم إلى المزيد من الجوع، والمزيد من الجثث، والمزيد من الأطفال الذين لن يصلوا إلى سن المدرسة. ولهذا كان صوتها صارما، لا يقبل التأجيل أو التفاوض: “وقف فوري، غير مشروط، ودائم لإطلاق النار” – ثلاث صفات تُلخّص رؤية دولة تؤمن بأن الكرامة الإنسانية لا تقبل التجزئة. وفي هذا السياق، تعزّز موقف الجزائر بمطلب مكمّل وهو ضمان حماية الممرات الإنسانية، لتأمين عبور المساعدات، ولتأمين حياة من تبقّى من الأحياء. فالحرب في غزة تقتل بالصواريخ، وأيضا بمنع الوصول إلى الدواء والغذاء والماء. وأي وقف لإطلاق النار لا يرافقه رفعٌ شامل للحصار، سيبقى ناقصا، هشا، ومجرد استراحة محارب. الجزائر، بخطابها الواضح، لم تترك مجالا للغموض: السلام الحقيقي يبدأ حين يتوقف القتل، ويُرفَع الحصار، وتُستعاد الكرامة. بهذا الطرح، اختتمت الجزائر مداخلتها في مجلس الأمن، رافعة الصوت بدلا عن أولئك الذين لم يتبقَّ لهم سوى الجلد على العظم والأنين المكبوت. لم تنتظر المقايضات السياسية، ولم تساير الحسابات الجيوسياسية، بل قرعت جرس الإنذار بصوت الضمير. وهكذا أثبتت الجزائر مرة أخرى أنها، رغم كل التحوّلات في موازين القوى، لا تزال وفيّة لمبادئها، ثابتة في منبرها، لا تنكسر في زمن الانكسارات، ولا تصمت حين يعلو صوت الجوع على كل الأصوات.