الجزائر تشرع في تولي رئاسة مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي

الجزائر تقود أمن إفريقيا

الجزائر تقود أمن إفريقيا
  • تسوية النزاعات ومكافحة الإرهاب.. أولويات الجزائر خلال رئاستها لمجلس السلم الإفريقي

شرعت الجزائر، ابتداء من الأول من أوت الجاري، في تولي رئاسة مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، في مرحلة حساسة تمرّ بها القارة الإفريقية، حيث تتعاظم التحديات الأمنية وتتزايد الحاجة إلى أدوار قيادية فعالة ومبادرات متوازنة.

وتمثل هذه الرئاسة فرصة استراتيجية للجزائر لترسيخ موقعها كفاعل مركزي في هندسة السلم والاستقرار بالقارة، خاصة في ظل تصاعد الأزمات في السودان، جنوب السودان، ومنطقة الساحل، وعودة الجدل حول الحوكمة والآليات الوقائية من النزاعات. ولا تقتصر أهمية هذه الرئاسة على بعدها الرمزي أو السياسي، إذ تعبّر عن انتقال الجزائر من دور الوسيط والمبادر إلى دور صانع القرار، ضمن مقاربة إفريقية شاملة تعزز من حضورها القاري وتترجم رؤيتها الأمنية والدبلوماسية المتجذرة في مبدأ الحلول السلمية الإفريقية للمشاكل الإفريقية. تأتي رئاسة الجزائر لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي كثمرة لمسار دبلوماسي طويل بَصم تاريخ القارة، حيث لم تكن الجزائر يوما بعيدة عن دوائر القرار الإفريقي في قضايا السلم، لكنها اليوم تنتقل إلى موقع القيادة المباشرة، لتضطلع بدور أكبر في توجيه البوصلة القارية نحو معالجة الأزمات المتفاقمة. فبعد انتخابها في أفريل 2025 كعضو في المجلس لولاية تمتد إلى غاية 2028، بات من الطبيعي أن تتولى في وقت مبكر رئاسة هذه الهيئة الهامة، ما يعكس حجم الثقة الإفريقية في تجربتها وحيادها ورصيدها السياسي والأمني. لقد رسخت الجزائر مكانتها في المجلس من خلال مقارباتها المتزنة المبنية على احترام سيادة الدول، والدعوة إلى الحلول السياسية بدل التدخلات الخارجية، وهو ما جعل صوتها مسموعا ومواقفها محل إجماع في محطات عديدة، سواء تعلق الأمر بالأزمة الليبية أو النزاعات في منطقة الساحل. واليوم، لا تكتفي الجزائر بلعب دور المشارك في النقاشات، بل تقود النقاش ذاته، وتقترح جدول الأعمال، وتنسق مواقف الدول الأعضاء، بما يعكس تحولا نوعيا في تموقعها داخل المنظومة الإفريقية. الرئاسة الجزائرية تستند إلى تقاليد دبلوماسية عريقة تجعلها مؤهلة لإدارة التوازنات الدقيقة داخل المجلس، خاصة في ظل تعقيد الملفات المطروحة. فالموقع الجغرافي للجزائر على تقاطع الساحل والمغرب العربي، وخبرتها في محاربة الإرهاب، إضافة إلى حضورها في ملفات المصالحة، تجعل منها مرشحا طبيعيا لتولي زمام المبادرة. وقد أظهرت التجربة أن رئاسة المجلس مسؤولية استراتيجية تتطلب قدرة على الإنصات، التوفيق، والتأثير. كما أن هذا التموقع، يعكس تحوّلا في الرؤية الجزائرية تجاه العمل الإفريقي المشترك، من منطق الدفاع عن المبادئ إلى منطق الفعل والتأثير في صنع الحلول. فبينما اكتفت بعض الدول بالمشاركة الشكلية، بادرت الجزائر إلى توظيف تجربتها الأمنية والدبلوماسية لتقديم مقترحات عملية وتفعيل آليات القارة المعطلة. وفي هذا الإطار، لا تبدو رئاسة الجزائر إلا امتدادا طبيعيا لصعود دورها الإقليمي في السنوات الأخيرة، وتعبيرا عن إرادة سياسية واضحة لتجسيد الشعار الذي طالما رددته: “الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية”. ومن خلال هذا الدور، تفتح الجزائر صفحة جديدة في علاقتها بالاتحاد الإفريقي، قائمة على المساهمة الفعلية في ترسيخ بنية السلم والأمن القاري، لا عبر الشعارات أو المبادرات الظرفية، وإنما من خلال ممارسة حقيقية للقيادة، تأخذ في الحسبان خصوصيات كل أزمة، وتعيد ترتيب الأولويات بما يخدم المصالح الجماعية لشعوب القارة، بعيدا عن الحسابات الضيقة أو الاصطفافات المصلحية.

 

أجندة السلم والأمن.. تحديات النزاعات

وفي امتداد طبيعي للدور القيادي الذي باشرت الجزائر ممارسته من خلال رئاسة مجلس السلم والأمن، تتّضح معالم رؤيتها الاستراتيجية عبر أجندة غنية بالملفات الساخنة التي تمس جوهر الأمن القاري، وعلى رأسها أزمات السودان وجنوب السودان، وقضايا الحوكمة والإنذار المبكر. فالأولوية الجزائرية لا تقتصر على إدارة الأزمات القائمة، وإنما تتجه أيضا إلى معالجة الأسباب البنيوية التي تؤدي إلى انفجار النزاعات، وعلى رأسها ضعف مؤسسات الدولة، وتراجع الثقة في آليات الحكم، وتنامي التوترات الإثنية والمناطقية. وتبرز الأزمة في السودان كواحدة من أكثر القضايا استعجالا وتعقيدا على جدول أعمال المجلس، حيث تتقاطع الأبعاد السياسية مع الطابع الإنساني، وتغيب حلول التوافق أمام مشهد عسكري محتدم. هنا، تراهن الجزائر على مقاربتها التوفيقية وخبرتها الطويلة في ملف المصالحة الوطنية، لمحاولة تفعيل وساطة إفريقية خالصة تضع حدا لسفك الدماء، وتنقذ الدولة السودانية من خطر التفكك. والشيء نفسه ينطبق على جنوب السودان، حيث لا تزال معضلات بناء الدولة والمؤسسات تشكل تحديا مستمرا منذ إعلان الانفصال، وهو ما يستدعي تجديد آليات الدعم الإفريقي وفق رؤية جماعية مسؤولة. في المقابل، لا تغفل الرئاسة الجزائرية البعد الوقائي في عمل المجلس، إذ تحرص على تعزيز منظومة الإنذار المبكر، وربطها بالحوكمة الرشيدة، إيمانا بأن غياب العدالة الاجتماعية وضعف الشفافية الاقتصادية يمثلان تربة خصبة لانفجار الأوضاع. ومن هذا المنطلق، تندرج الجلسات الموضوعاتية حول آلية تقييم الحوكمة الإفريقية، باعتبارها خطوة هامة لإعادة الاعتبار للمؤسسات القارية التي تُعنى بقياس مؤشرات الاستقرار، ومن ثم صياغة توصيات استباقية لمنع تكرار الانهيارات المؤسسية. وتكشف الجزائر من خلال هذه التوجهات عن وعي عميق بترابط السلم مع التنمية والعدالة، إذ لا يمكن معالجة الأزمات بمعزل عن جذورها الهيكلية. فمفهوم الأمن لم يعد يقتصر على وقف إطلاق النار أو نزع السلاح، وبات يشمل بناء بيئات سياسية واجتماعية واقتصادية مستدامة، تضمن التوزيع العادل للثروة، وتكفل للمواطن الإفريقي كرامته وحقوقه. وهذا ما تحاول الجزائر ترسيخه من موقعها الجديد، عبر توسيع نطاق الجلسات الموضوعاتية نحو قضايا لا تقل خطورة، مثل النزوح الجماعي، تهريب الأسلحة، وتدهور الأنظمة البيئية في مناطق النزاع. وتسعى الجزائر، ضمن هذه الرؤية الشمولية، إلى إعادة ترتيب أولويات الاتحاد الإفريقي، من خلال إقناع الشركاء بأن الاستثمار في الوقاية هو أقل كلفة وأكثر جدوى من إدارة الأزمات بعد تفاقمها. وبهذا التوجه، تبدو الرئاسة الجزائرية كفرصة لإحداث نقلة نوعية في فلسفة عمل المجلس، عبر الجمع بين التدخل السريع في بؤر التوتر، وإرساء قواعد طويلة المدى لتعزيز الاستقرار، مع ضمان أن تكون إفريقيا، ولأول مرة، هي من يملك زمام المبادرة في تقرير مصيرها الأمني والمؤسساتي.

 

مكافحة الإرهاب والتنسيق الأمني.. الجزائر في قلب المعركة

وإذا كانت قضايا النزاع والحوكمة تشكل البعد السياسي لأجندة مجلس السلم والأمن، فإن الجزائر تولي أهمية قصوى للبعد الأمني المباشر، وعلى رأسه ملف مكافحة الإرهاب الذي يتصدر أولوياتها خلال فترة رئاستها. هذا الاهتمام لا ينبع فقط من التهديدات المتزايدة التي تطال العديد من المناطق الإفريقية، من الساحل إلى القرن الإفريقي، وإنما أيضا من قناعة جزائرية راسخة بأن أمن إفريقيا لا يمكن أن يُترك مرتهنا للمقاربات الخارجية التي أثبتت محدوديتها، بل يجب أن ينبثق من تنسيق داخلي فعال ومتكامل بين الدول الأعضاء. في هذا الإطار، يكتسي الاجتماع المزمع حول الإطار المرجعي للجنة الفرعية لمكافحة الإرهاب أهمية استثنائية، كونه يهدف إلى ضبط آليات العمل المشترك وتوحيد الرؤى حول مقاربة شاملة، تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية نحو تجفيف منابع التطرف والعنف. وتحرص الجزائر، من خلال هذا الاجتماع، على تفعيل الأدوات القارية التي أنشئت لهذا الغرض، وفي مقدمتها مركز الاتحاد الإفريقي لمكافحة الإرهاب، ومقره الجزائر العاصمة، والذي تسعى إلى منحه دورا محوريا في جمع المعلومات وتحليل التهديدات وتنسيق العمليات بين الدول. ويأتي أيضا في هذا السياق تفعيل آلية “أفريبول”، كجهاز إفريقي للتعاون الشرطي، يتيح تبادلا آنيا للمعلومات، وتنسيقا مباشرا بين أجهزة إنفاذ القانون، بعيدا عن التعقيدات البيروقراطية أو التبعية للأجندات الدولية. فالجزائر، بخبرتها الممتدة في مكافحة الإرهاب، منذ العشرية السوداء، تدرك أن التنسيق الأمني الفعّال لا يتحقق إلا بوجود ثقة بين الأجهزة، واستقلالية القرار القاري، واستثمار فعلي في بناء القدرات المحلية. ولعل ما يميز المقاربة الجزائرية هو سعيها لربط الأمن بمحيطه الاجتماعي والسياسي، حيث ترى أن التصدي للإرهاب لا يتم فقط عبر البندقية، بل عبر التعليم، والتنمية المحلية، ومحاربة الإقصاء والتهميش، وهي الرؤية ذاتها التي تحاول نقلها إلى شركائها في المجلس، لتصبح مكافحة الإرهاب سياسة جماعية لا ردّ فعل ظرفي. وهذا ما يجعل الجزائر أكثر تمسكا بتفعيل البعد الوقائي في الاستراتيجية القارية، انطلاقا من أن التهديدات العشوائية تتطلب استجابات شاملة وليست أمنية فقط. وبتكثيفها لاجتماعات التنسيق مع الأعضاء الأفارقة في مجلس الأمن الأممي، تسعى الجزائر إلى ترسيخ هذا التصور على المستوى الدولي، والتأكيد على أن إفريقيا قادرة على تولي زمام معركتها ضد الإرهاب إذا ما توفر لها الدعم الفني والاحترام السيادي اللازم. وهكذا، تتحول رئاسة الجزائر لمجلس السلم والأمن إلى منصة لتوسيع شبكات التعاون الأمني القاري والدولي، وترسيخ قناعة جديدة بأن المعركة ضد الإرهاب لا تُخاض دفاعا عن دولة بعينها، وإنما عن مستقبل قارة بأكملها.

 

الدبلوماسية الجزائرية.. نحو تكريس مكانة إقليمية ودولية

وانطلاقا من ثقلها الأمني وحنكتها في ملفات الوساطة، لا تبدو الجزائر خلال رئاستها لمجلس السلم والأمن منشغلة فقط بتقنيات إدارة الملفات داخل القارة، إذ تسعى أيضا إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية ذات امتداد دولي، قادرة على التأثير في القرارات الأممية المرتبطة بالسلم والاستقرار في إفريقيا. ويتجلى ذلك بوضوح في برمجة اجتماع تنسيقي مع الأعضاء الأفارقة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو تحرك دبلوماسي يعكس نضج الرؤية الجزائرية القائمة على الربط بين الأطر القارية والدولية، وفرض المقاربات الإفريقية داخل مؤسسات القرار العالمي. هذا التوجه لا يأتي بمعزل عن تراكمات الدور الجزائري في الدبلوماسية الإفريقية، والذي تأسس منذ عقود على قاعدة من المبادئ الثابتة، مثل احترام سيادة الدول، والدفاع عن القضايا العادلة، ومناهضة التدخلات الأجنبية. واليوم، تستثمر الجزائر هذا الرصيد الرمزي والسياسي، لترتقي إلى موقع صانع التوازنات، خاصة في ظل تصاعد التنافس الدولي على النفوذ في إفريقيا، واحتدام الصراع بين القوى الكبرى على إعادة رسم خارطة المصالح داخل القارة. وفي هذا السياق، تبرز الجزائر كصوت عاقل ووازن، يسعى إلى بلورة مواقف إفريقية موحدة، سواء في قضايا الأمن أو في الملفات ذات الصلة بالتنمية والشراكات الدولية. وهي، بذلك، لا تقدم نفسها كقوة مهيمنة أو طامحة للزعامة، وإنما كدولة نزيهة تمتلك من الاستقلالية السياسية والرؤية المتوازنة ما يؤهلها لتجسير الهوة بين مصالح القارة ومصالح المجتمع الدولي، دون التفريط في السيادة أو الانخراط في محاور دولية ضيقة. كما أن الجزائر تدرك أن تعزيز مكانتها القارية والدولية لا يمر فقط عبر تولي المناصب أو رئاسة المجالس، وإنما من خلال الفعالية في الأداء، والمبادرة في طرح الحلول، والمثابرة في الدفاع عن القضايا الاستراتيجية لإفريقيا، مثل الأمن الغذائي، والطاقوي، والعدالة المناخية. ومن هنا، تعمل على ترجمة هذه الأولويات إلى أجندة عمل داخل مجلس السلم والأمن، بما يعزز صورتها كدولة ملتزمة بمصير القارة كقلب نابض لمستقبل العالم. وبهذا المنظور، تتحول الرئاسة الجزائرية إلى ما يشبه مختبرا دبلوماسيا لترسيخ مفاهيم جديدة في العلاقات الإفريقية والدولية، قوامها التعاون المتكافئ، والشراكة العادلة، والاستقلالية في اتخاذ القرار. وهي فرصة تؤكد فيها الجزائر أنها لا تسعى فقط إلى تفعيل دورها في المنظمات الإقليمية، وإنما إلى إعادة صياغة هذا الدور بما يتماشى مع متغيرات الساحة الدولية، ويمنح إفريقيا الكلمة الحاسمة في قضاياها المصيرية. رئاسة الجزائر لمجلس السلم والأمن الإفريقي خلال شهر أوت, تمثل محطة مفصلية تؤكد من خلالها حضورها القوي في معادلات القارة، وتبرز قدرتها على الجمع بين الرؤية السياسية المتزنة والخبرة الأمنية العميقة والدبلوماسية الفاعلة. فمن خلال جدول أعمال طموح، ومقاربات شاملة تعالج الجوانب الأمنية والسياسية والحوكمية، تسعى الجزائر إلى إعادة تعريف مفهوم القيادة القارية كمسؤولية استراتيجية تعكس التزاما حقيقيا بمستقبل إفريقيا واستقرارها. وإذ تؤسس هذه التجربة لرؤية جزائرية جديدة في العمل الإفريقي المشترك، فإنها أيضا ترسم ملامح توازن دولي جديد تكون فيه الجزائر صوتا قويا في الدفاع عن السيادة، والاستقلال، والسلم الدائم في القارة.