أحيت الجزائر، أمس السبت، الذكرى 60 لعيد النصر، وهو التاريخ الذي يؤرخ للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وحكومة الاحتلال الفرنسي بتاريخ 19 مارس من عام 1962، عقب مفاوضات بين الطرفين عُرفت باتفاقيات ايفيان.
يعد تاريخ 19 مارس يوما تاريخيا، تمكنت فيه الثورة الجزائرية من تحقيق ما ناضل من أجله أجيال، لتفتك الجزائر استقلالها، بعد أن أجبرت فرنسا على اللجوء إلى الحل السياسي والاعتراف بها كدولة مستقلة، وذلك بعد التوقيع الرسمي على اتفاقيات إيفيان يوم 18 مارس 1962م على الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، وبعد اجتماعات طويلة دامت 12 يوما متتالية، حيث وقع كل من رئيس الوفد الجزائري كريم بلقاسم ولويس جوكس وزير الدولة الفرنسي المكلف بالشؤون الجزائرية عليها، وبموجبها تم وقف إطلاق النار عبر كامل التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 على الساعة 12 زوالا.
… الطريق الى الهزيمة
ما إن عُين الجنرال “ديغول” لأول مرة في جوان 1958م كرئيس حكومة حتى جاهر الاستعمار بنواياه العدوانية ضد الثورة الجزائرية، مبينا أطروحة المعمرين وأسطورة الجزائر الفرنسية ومراهنته من جديد كمن سبقوه، ومارس سياسة الإصلاح السياسي والاقتصادي رغم ذلك، فلم تكن سياسته سياسة حرة وتحررية وواقعية، بل ظل مدة عامين رهين أطروحات المعمرين الحالمين بجزائر فرنسية بمنطق القوة وحده وراهن لحين على هذه القوة العسكرية الكبيرة. وأمام تهدد مكانة ومصير ومصالح فرنسا أكثر وباستمرار الحرب الجزائرية الطويلة والفاشلة والمكلفة عن مختلف الأصعدة ومن ثم سير المفاوضات ومراحلها (1956-1962)
رغم استعمال فرنسا جميع الوسائل لإخماد الثورة إلا أنها لم تتمكن من ذلك، بل رضخت للتفاوض. يمكن تقسيم المفاوضات إلى نوعين أولها مفاوضات سرية أولية لجس النبض وكانت كالتالي:
– لقاء الجزائر أفريل 1956 – لقاء القاهرة بين محمد نيفر وقروس – لقاء بلغراد (عاصمة يوغسلافية يوم 21/07/56) – لقاء روما 1سبتمبر 1956 بين أحمد يزيد ومحمد جعفر عبد الرحمان كيوان مع بياركومين. وهذه اللقاءات كلها عبارة عن مناورات من طرف فرنسا لمعرفة الثورة وقراراتها، وثانيها مفاوضات فعلية في الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وفي سنة 1960 جرت محادثات في مولان بين محمد بن يحيي وأحمد بومنجل وممثلي الحكومة الفرنسية، وقد فشل اللقاء لتمسك فرنسا بالحل العسكري، فكان مجرد جس للنبض. 20 فيفري 1961 جرت المحادثات في لوساون بين الطيب بوقرون، أحمد بومنجل وحرنا بومبيدو، إلا أنها فشلت بسبب رغبة في فصل الصحراء وبجرأة الجزائر عرفيا وبين 20 ماي -13 جوان 1961م جرت محادثات بمدينة إيفيان الفرنسية (سميت محادثات ايفيان الأولى) بين كريم بلقاسم ومحمد الصديق بن يحيى وأحمد فرسين وغيرهم من أعضاء الوفد الجزائري وبين لوس جركس من الجانب الفرنسي، حيث اعترفت خلالها فرنسا بأن السياسة الخارجية من صلاحيات الدولة الجزائرية لكنها بقيت متمسكة بالصحراء، في حين أصر الوفد الجزائري على التمسك بالوحدة التراثية للجزائر.
– أكتوبر – نوفمبر 1961 جرت عدة محادثات بال الأول وبال الثاني بسويسرا بين محمد بن يحيى ورضا مالك، وقد اعترضت هذه المحادثات صعوبات عديدة منها قضية الضمانات والمرافق العسكرية، استغلال الثروات الصحراوية ووقف إطلاق النار…إلخ
وقد حاولت فرنسا المراوغة باتخاذها عدة أساليب منها تطبيق فكرة الطاولة المستديرة وإنشاء القوة الثالثة المكونة من الحركة والعملاء المتواطئين مع الاستعمار بغية اقتتال وعرقلة مسيريها، وكذا التعاطي عن بساط المنظمة الإرهابية التي ظهرت في شهر فيفري 1960 وسميت بمنطقة الجنس السري، حيث قامت باغتيال المناضلين، محاولة منها عرقلة المفاوضات وإفشال الاتفاقيات بين الحكومة المؤقتة والدولة الفرنسية، فهذه المناورات وغيرها دفعت الشعب الجزائري إلى تأكيد تعلقه بجبهة جيش التحرير الوطني، فاندلعت العديد من المظاهرات على النحو التالي.
– مظاهرات 11ديسمبر1960 – مظاهرات 5 جويلية 1961 – مظاهرات 1نوفمبر 1961 – مظاهرات 17أكتوبر 1961 .
– مفاوضات إيفيان الثانية استؤنفت المحادثات من جديد بصفة رسمية يوم 7مارس 1962 بإيفيان بعد سلسلة من المحادثات الحاسمة، خلصت إلى الاعتراف الفرنسي بـ:
سيادة الشعب الجزائري، الوحدة الترابية للجزائر ووحدة الأمة الجزائرية وكذا إبقاء جبهة التحرير الوطني كممثل وحيد وشرعي للشعب الجزائري.
وهذا إلى جانب التعاون في مختلف المجالات الاقتصادية، المالية، الثقافية، والفنية، وإلى جانب القضايا الفرنسية المعتمدة في الجزائر حقوق الكنيسة… إلخ. وبذلك حققت الهدف، جدده بيان أول نوفمبر 1954 وهذا الهدف الذي ازداد تفصيلا ووضوحا خلال القتال وهو:
الاعتراف بوحدة الشعب الجزائري، استقلال الجزائر وسيادتها، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين والاعتراف بجبهة التحرير الوطني باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الجزائري.
طريق توقيف القتال ومهد الاستقلال
بمقتضى اتفاقية ايفيان تم توقيف إطلاق النار كليا على جميع التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 وتمخض عن وقف القتال ردود فعل إجرامية إرهابية قامت بها منظمة الجيش السري الفرنسية. ولقد خاض الشعب الجزائري تحت لواء جبهة التحرير الوطني كفاحا مريرا لاسترجاع استقلاله وحريته، وكان له ذلك بعد أن قدم الثمن غاليا يتمثل في قوافل من الشهداء مليون ونصف مليون شهيد ومئات الآلاف من الأرامل واليتامى ومئات الآلاف من المعتقلين والسجناء، إلى جانب تدمير آلاف القرى وتخريب ممتلكات الجزائريين، مما جعل الثورة التحررية تتصدر طليعة الثورات ضد الاستعمار في العالم.
بن شنوف مليكة المجاهدة التي عاشت فرحة الانتصار في فرنسا:
“فرحة يوم عيد النصر لا مثيل لها”
اتصلنا بالمجاهدة مليكة بن شنوف وهي على فراش المرض، لم تأبَ قطع المكالمة حينما قلنا لها: “نريد الحديث معك عن عيد النصر”، المرأة التي عاشت يوم عيد النصر في فرنسا تحكي فرحة ذلك اليوم وتقول: “كنا ننتظر ذلك اليوم بعشر عيون، كانت الفرحة الكبيرة لا حدود لها في شوارع مارساي”. وأكدت أن عيد النصر هو “ثمرة كفاح كبير خاضه الشعب الجزائري الذي انتزع استقلاله بفضل تضحيات جسام، تلك التي تشكل أفضل هدية قدمها جيل نوفمبر للأجيال الصاعدة”.
لزهر بديدة أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر:
“لم يكن لفرنسا حل آخر إلا استقلال الجزائر”
قال لزهر بديدة أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر إن الجزائر التي نالت استقلالها بالسلاح بعد حرب تحرير التي استمرت سبع سنوات ونصف السنة هي المستعمرة الفرنسية الوحيدة في إفريقيا في ستينيات القرن الماضي التي تخلصت من الاستعمار الفرنسي بقوة السلاح.
وبعد اندلاع حرب التحرير في الجزائر في الأول من نوفمبر 1954 بهجمات مناضلي جبهة التحرير الوطني على رموز الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لجأت في المقابل فرنسا الى محاولة سحق من كانت تسميهم «الفلاقة» أي مقاتلي جبهة التحرير بالتعذيب والدعاية وزيادة الإمدادات العسكرية.
وكان من عواقب هذه «الحرب» التي لم تعترف بها فرنسا سوى في 1958، سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة وعودة الجنرال شارل ديغول للحكم لإنقاذ الجزائر الفرنسية. وتفطن ديغول في مفاوضات إيفيان، إلى أن الحل الوحيد هو استقلال الجزائر رغم معارضة المستوطنين.
وفي 8 يناير 1962 صوّت 78% من الفرنسيين في استفتاء لصالح حق الجزائريين في تقرير مصيرهم. وجرت مفاوضات شاقة قبل أن يعترف ديغول ويقبل كلمة «استقلال» الجزائر بعد أن ظل يتحدث عن «انفصال» ثم «تقرير مصير». وتم التوقيع على اتفاقيات ايفيان «مدينة جنوب شرق فرنسا» في 18 مارس 1962، بعد تعثر المفاوضات عدة مرات ومعارضة جنرالات فرنسا الذين حاولوا الانقلاب على ديغول قبل شهر من هذا التاريخ حتى لا يضيعوا الجزائر التي كانوا يعتبرونها ملكهم. ووقعت الاتفاقيات من قبل لويس جوكس وزير الشؤون الجزائرية في حكومة ديغول ووفد الحكومة الجزائرية المؤقتة بقيادة العقيد في جيش التحرير الوطني كريم بلقاسم.
وكان وقف إطلاق النار ابتداء من يوم 19 مارس أول نقطة في الاتفاقيات، إلا أن ذلك لم يتم احترامه من طرف منظمة الجيش السري الفرنسية التي رفعت شعار «الجزائر فرنسية وستبقى كذلك». ونفذت المنظمة اعتداءات في الجزائر وفرنسا.
وبدأت الهجرة الجماعية للفرنسيين من «الأقدام السود» والذين كانوا يمثلون 10% من عدد سكان الجزائر، أي مليون نسمة. ولم يبق منهم في السنوات الأولى سوى 200 ألف، أما اليوم فيمثلون بضع مئات.
ونصت اتفاقيات ايفيان على تخيير «الأقدام السود» بين الاحتفاظ بالجنسية الفرنسية أو نيل الجنسية الجزائرية، على أن يقرروا خلال ثلاث سنوات.
و«الأقدام السوداء» تعبير فرنسي يشير الى المستوطنين الفرنسيين المولودين أو الذين عاشوا في الجزائر خلال فترة الاستعمار، وبقي منهم نحو 200 إلف في الجزائر متعلقين بمسقط الرأس خلافا للاعتقاد السائد بأن كل الأوروبيين هربوا جماعيا من الجزائر بدءا من صيف 1962 خوفا من الاعتداء عليهم. أما من عُرفوا باسم «حركى» وهم الجزائريون الذين قاتلوا الى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، فقد قتل الآلاف منهم لعدم تمكنهم من الرحيل إلى فرنسا. وما تزال هذه المسألة تسمم العلاقات الجزائرية الفرنسية. ويحاول المؤرخون في البلدين البحث في التاريخ لتوثيق الوقائع، إلا أن عملهم يواجه صعوبات خاصة أن الأرشيف الفرنسي حول حرب الجزائر لم يُنشر كله.
ق.م