بُعدٌ استراتيجي عميق وراء المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025

الجزائر.. قاطرة التحرر الاقتصادي الإفريقي

الجزائر.. قاطرة التحرر الاقتصادي الإفريقي
  • الجزائر تتحول إلى قبلة اقتصادية.. أكثر من 2000 عارض واستثمارات تتجاوز 44 مليار دولار

في سبتمبر المقبل، ستتحول الجزائر إلى قبلة اقتصادية إفريقية وهي تحتضن الطبعة الرابعة للمعرض الإفريقي للتجارة البينية، في حدث يتجاوز حدود التظاهرات التجارية التقليدية ليحمل بعدا استراتيجيا عميقا.

فالمعرض، الذي يشارك فيه أكثر من 2000 عارض من 75 دولة وباستثمارات متوقعة تفوق 44 مليار دولار، يأتي ليؤكد أن الجزائر تسعى لأن تكون “قاطرة التحرر الاقتصادي” للقارة، تمامًا كما كانت داعما أساسيا لتحررها السياسي في العقود الماضية. وبـ”رعاية سياسية قصوى” من أعلى هرم السلطة، وبشهادة شخصيات إفريقية وازنة على غرار الرئيس النيجيري الأسبق أولوسيجون أوباسانجو، يتجسد هذا الحدث كحلقة جديدة في مسار جعل إفريقيا أكثر استقلالا في قرارها الاقتصادي، وأقل تبعية للأسواق الخارجية، مع توجيه رسالة واضحة مفادها أن الجزائر مستعدة لقيادة مرحلة جديدة من الاندماج القاري تقوم على شراكات متوازنة وفرص استثمارية مشتركة. جاء اختيار الجزائر لاحتضان الطبعة الرابعة للمعرض الإفريقي للتجارة البينية امتدادا لمسار تاريخي طويل بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، حين جعلت من دعم حركات التحرر الإفريقية جزءا أساسيا من سياستها الخارجية. فمنذ مؤتمر الجزائر عام 1969، الذي جمع قادة حركات التحرر من مختلف أنحاء القارة، وضعت الجزائر نفسها في موقع “الحاضنة السياسية” لمشروع الاستقلال الإفريقي، مؤمنة بأن تحرر القارة لا يكتمل إلا بالتحرر من كل أشكال الهيمنة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. هذه الخلفية التاريخية تمنح المعرض المقبل بعدا رمزيا إضافيا، إذ يعيد وصل الحاضر بالماضي، ويؤكد استمرار الدور الجزائري في صياغة مستقبل القارة. ومع مرور العقود، انتقل هذا الالتزام من البعد السياسي إلى الاقتصادي، ليأخذ أشكالا جديدة تتماشى مع تحديات العولمة والتحولات الإقليمية. فالجزائر، التي راكمت خبرة في مجال الوساطات السياسية والعمل الإفريقي المشترك، بدأت منذ مطلع الألفية الجديدة في الدفع نحو شراكات اقتصادية إقليمية أكثر قوة، معتبرة أن التكامل الاقتصادي بين الدول الإفريقية هو “الخطوة الثانية في مسار الاستقلال”. هذا التصور يعكس قناعة جزائرية راسخة بأن النفوذ الاقتصادي هو الذي يضمن استدامة النفوذ السياسي، وأن القارة بحاجة إلى مسارات تنمية داخلية تعتمد على قدراتها الذاتية بدل الارتهان للأسواق الخارجية. من هنا، تبدو استضافة المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025 فرصة لترجمة هذا التصور إلى واقع ملموس. فالحدث هو فضاء لتأسيس شراكات اقتصادية بين الدول الإفريقية، وتشجيع الاستثمار المتبادل، وتوسيع الأسواق المشتركة. وبفضل موقعها الجغرافي الرابط بين شمال القارة وجنوبها، وخبرتها في إدارة الفعاليات القارية، تمتلك الجزائر مقومات تؤهلها لتكون “الجسر الاقتصادي” الذي يربط بين أقاليم إفريقيا المختلفة، ويفتح أمامها فرصا جديدة للتنمية. هذا الامتداد التاريخي، الذي يجمع بين الماضي النضالي والحاضر الاقتصادي، يفسر الحماس الكبير الذي يرافق التحضيرات للمعرض. فهو بالنسبة للجزائر حلقة ضمن استراتيجية أوسع لتثبيت موقعها كقاطرة للتحرر الاقتصادي الإفريقي. ومع الدعم السياسي القوي، والالتفاف القاري حول هذا الموعد، يبدو أن الجزائر تسعى من خلاله إلى إرسال رسالة واضحة: أن التحديات الاقتصادية التي تواجه إفريقيا يمكن تحويلها إلى فرص، إذا ما توفرت الإرادة والتنسيق، وإذا ما وُظفت الخبرات التاريخية في خدمة المستقبل.

 

المعرض الإفريقي 2025.. منصة للتحرر الاقتصادي

يأتي المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025، ليشكل أكبر تظاهرة اقتصادية على مستوى القارة منذ إطلاقه سنة 2018، بحجمه وعدد المشاركين فيه، وأيضا بطموحاته السياسية–الاقتصادية المعلنة. فالأرقام التي ترافق هذه الدورة غير مسبوقة: أكثر من 2000 عارض يمثلون 75 دولة، و35 ألف زائر مهني متوقع، واتفاقيات واستثمارات قد تتجاوز 44 مليار دولار. هذه المؤشرات تعكس حجم الرهانات الموضوعة على الحدث، وتجعل منه فرصة ذهبية لتعزيز المبادلات البينية الإفريقية وتقليص الاعتماد على الأسواق الخارجية التي لطالما كبّلت اقتصادات القارة وأبقتها رهينة للتقلبات العالمية. استضافة الجزائر لهذا المعرض في قصر المعارض بالصنوبر البحري، وتنظيمه بالشراكة مع البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير ومفوضية الاتحاد الإفريقي وأمانة منطقة التبادل الحر القارية، يمنحه بعدا مؤسساتيا قويا. فهو فضاء لتوقيع صفقات، وإطلاق مبادرات، وبناء شبكات علاقات اقتصادية عابرة للحدود. وبما أن منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية تمثل مشروعا محوريا في أجندة التنمية القارية، فإن المعرض يأتي كمنصة عملية لتفعيل هذا المشروع على أرض الواقع، من خلال جمع صانعي القرار والمستثمرين ورواد الأعمال في مكان واحد. الجزائر، بخبرتها التنظيمية وقدرتها على توفير بيئة لوجستية متكاملة، تسعى إلى جعل المعرض أكثر من مجرد حدث موسمي. فالتحضيرات التي حظيت بإشادة الشركاء الدوليين، والتوجيهات الصارمة من رئيس الجمهورية لتوفير كل التسهيلات للشركاء الأفارقة، تعكس إرادة سياسية واضحة لإنجاح هذه التظاهرة. هذه الجهود ترسخ صورة الجزائر كفاعل اقتصادي موثوق قادر على استضافة أحداث قارية كبرى، وعلى لعب دور المحفّز لمشاريع التكامل الإفريقي. ومن شأن نجاح هذه الدورة أن يعزز مكانة الجزائر على خريطة الاقتصاد الإفريقي، ويؤكد قدرتها على الجمع بين الإرث السياسي التاريخي والدور الاقتصادي الفاعل في الحاضر. فالمعرض، بما يحمله من إمكانيات لعقد شراكات استراتيجية وتوقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة، يمكن أن يصبح نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من التعاون القاري، حيث تتحول الخطابات حول التكامل والتحرر الاقتصادي إلى إنجازات ملموسة على الأرض، وتجد القارة نفسها أقرب إلى تحقيق استقلالها الاقتصادي الذي طال انتظاره.

 

شهادات دولية تعزز الريادة الجزائرية

الاهتمام الإفريقي والدولي بالمعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025، جاء في شكل “شهادات واثقة” أكدت أن الجزائر باتت تُنظر إليها كفاعل أساسي في صياغة المستقبل الاقتصادي للقارة. ومن أبرز هذه الشهادات تصريح الرئيس النيجيري الأسبق، أولوسيجون أوباسانجو، الذي وصف الحدث بأنه “خطوة جديدة في مسار التحرر الاقتصادي” لإفريقيا، مؤكدا أن الجزائر أثبتت من خلال تحضيراتها أنها تملك الرؤية والإرادة لتحويل المعرض من مجرد تظاهرة اقتصادية إلى منصة استراتيجية للتكامل القاري. هذا النوع من الإشادات يعكس ثقة القادة الأفارقة في أن الجزائر قادرة على لعب دور “قاطرة التغيير” في زمن تتزايد فيه التحديات الاقتصادية العالمية. إلى جانب تصريحات أوباسانجو، صدرت عن الشركاء المنظمين إشادات متكررة بقدرات الجزائر التنظيمية، وخصوصا البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير ومفوضية الاتحاد الإفريقي. فقد أكد هؤلاء أن الجزائر لم تكتفِ بتوفير الإمكانيات اللوجستية والبنية التحتية، وأظهرت “التزاما سياسيا قويا” بإنجاح المعرض، وهو ما تجلى في القرارات الرئاسية التي أولت الحدث أهمية قصوى وأمرت بتوفير جميع التسهيلات للشركاء الأفارقة. هذه الثقة المؤسسية تؤسس لصورة جديدة للجزائر كحاضنة لأهم المواعيد الاقتصادية في القارة، وليس فقط كدولة مشاركة فيها. من منظور دبلوماسي، تحمل هذه الإشادات بعدا يتجاوز الجانب الاقتصادي، إذ تمنح الجزائر أوراق قوة إضافية في علاقاتها الإفريقية والدولية. فاستضافة حدث يحظى بهذا المستوى من الإجماع والرضا يعزز موقعها التفاوضي في ملفات أخرى، ويكرسها كدولة “بانية للجسور” بين أقاليم القارة المختلفة. كما أن النجاح في جمع هذا العدد الكبير من الفاعلين الاقتصاديين وصناع القرار يفتح أمام الجزائر فرصة لإطلاق مبادرات جديدة تخدم مصالحها الوطنية ومصالح القارة مجتمعة. هذه الشهادات الدولية هي بمثابة “تفويض معنوي” يمنح الجزائر الشرعية لقيادة مسار التكامل الاقتصادي الإفريقي. ومع كل إشادة أو تصريح داعم، يتأكد أن المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025 سيكون محطة مفصلية تعزز دور الجزائر كقوة دافعة نحو استقلال القرار الاقتصادي في إفريقيا، وتضعها في قلب مشروع قاري يتطلع إلى التحرر من كل أشكال التبعية.

 

من الحدث إلى المشروع القاري المشترك

ولا يمكن أن تتوقف طموحات الجزائر عند حدود إنجاح المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025، فـ”القيمة الحقيقية” لأي تظاهرة بهذا الحجم تكمن في قدرتها على إحداث أثر مستدام يتجاوز أيام انعقادها. وهنا تبرز أهمية التفكير في كيفية تحويل هذا الزخم الاقتصادي والدبلوماسي إلى مسار قاري دائم، قائم على التكامل والتنسيق بين الدول الإفريقية. فالجزائر، بحكم موقعها الريادي، مدعوة إلى قيادة مبادرات متابعة بعد المعرض، تضمن استمرار التواصل بين الفاعلين الاقتصاديين، وتحويل الاتفاقيات الموقعة إلى مشاريع حقيقية على الأرض. في هذا السياق، يمكن للجزائر أن تطرح “خارطة طريق إفريقية” مستوحاة من التجربة التي راكمتها في التحضير والتنظيم، تتضمن مقترحات عملية لتعزيز التجارة البينية، وتسهيل تنقل السلع والخدمات، وتطوير البنية التحتية المشتركة. مثل هذه الخطة يمكن أن تشكل مرجعا للدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، خاصة إذا تم تبنيها على مستوى المؤسسات القارية. ومن شأن إدماج رواد الأعمال الشباب، والمبتكرين، والمؤسسات الناشئة في هذه الديناميكية، أن يضخ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد الإفريقي، ويعزز فرص التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والإبداع. لكن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب مواجهة تحديات واقعية، من أبرزها ضعف البنية التحتية في بعض المناطق، وتعقيدات الإجراءات الجمركية، والتباين الكبير في القوانين والأنظمة بين الدول. هذه العراقيل، إذا لم يتم التعامل معها بجدية، قد تحد من قدرة المعرض على إحداث التحول المنشود. وهنا، يبرز دور الجزائر في “بناء التوافقات” بين الحكومات، والدفع نحو إصلاحات متزامنة تقلص من هذه الفجوات، وتفتح الطريق أمام تكامل اقتصادي فعلي. هذا المعرض يمكن أن يتحول إلى “ركيزة لسياسة إفريقية موحدة اقتصاديا” إذا ما تم استثماره كأداة التضامن القاري، وترسيخ مفهوم المصير الاقتصادي المشترك. ومع كل دورة ناجحة، تترسخ قناعة أوسع بأن إفريقيا قادرة على أن تصوغ بنفسها مستقبلها الاقتصادي، بعيدا عن التبعية والشروط المفروضة من الخارج. والجزائر، بما تملكه من إرث نضالي وخبرة تنظيمية وشبكة علاقات واسعة، مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لقيادة هذا التحول التاريخي. المعرض الإفريقي للتجارة البينية 2025، يثبت أن الجزائر تسعى بوعي سياسي واقتصادي إلى ترسيخ موقعها كـ”قاطرة للتحرر الاقتصادي” في القارة. هذا الحدث، المدعوم بـ”رعاية سياسية قصوى” وإجماع إفريقي متزايد، يمثل أكثر من فرصة تجارية؛ إنه إعلان واضح عن إرادة جماعية لصياغة مستقبل إفريقي مستقل، متحرر من “أغلال التبعية” ومنفتح على شراكات متوازنة تقوم على المصالح المشتركة. ومع كل خطوة ناجحة، تتأكد حقيقة أن الجزائر، بإرثها النضالي وخبرتها التنظيمية ورؤيتها الاستراتيجية، قادرة على تحويل الطموحات القارية إلى واقع ملموس، وجعل شعار “إفريقيا للأفارقة” برنامج عمل حقيقي على أرض الواقع.