سليل جيش التحرير يواصل مهمة صون استقلال الوطن

الجزائر الإقليمية.. قوة رادعة في محيط مشتعل

الجزائر الإقليمية.. قوة رادعة في محيط مشتعل

* الجيش الجزائري.. جاهزية عسكرية في مشهد إقليمي مضطرب

* عقيدة دفاعية راسخة.. وتلاحم داخلي يعزز الاستقرار

 

شهدت الجزائر، السبت 5 جويلية 2025، احتفالات رسمية وشعبية واسعة بالذكرى الثالثة والستين لاسترجاع السيادة الوطنية، وسط أجواء وطنية أعادت التأكيد على رمزية الاستقلال ومعاني السيادة الكاملة.

وبينما توزّع التركيز بين التاريخ والذاكرة، برز الجيش الوطني الشعبي كسليل لجيش التحرير الوطني، الذي يجسّد اليوم مفهوما محدثا للسيادة في زمن التحديات الإقليمية المعقدة. وفي محيط جيوسياسي متوتر شرقا وغربا وجنوبا، تواصل الجزائر تموقعها كقوة رادعة فاعلة، تدافع عن استقرارها دون انخراط في النزاعات، وتمسك بزمام أمنها القومي بأدوات حديثة وعقيدة عسكرية ثابتة. وفي ظل هذا التوازن الحذر الذي تحققه الجزائر بين السيادة التاريخية والاستقرار الراهن، تدرك الدولة أن موقعها الجغرافي الحساس يعد أحد أكبر التحديات الأمنية، وأهم دوافع تطوير جاهزيتها الدفاعية. إذ تقع الجزائر على تماس مباشر مع مناطق نزاع حادة، في محيط إقليمي يشهد توترات مزمنة وتدخلات أجنبية متصاعدة، ما يجعلها في قلب الأحداث، حتى وإن اختارت الحياد وعدم التورط. من الشرق، تفرض الأزمة الليبية حالة من اللااستقرار على الحدود الطويلة مع هذا البلد، في ظل انتشار جماعات مسلحة وشبكات تهريب عابرة للحدود. ومن الجنوب، تشترك الجزائر في حدود شاسعة مع مالي والنيجر، وهما بلدان يعانيان من تدهور أمني مزمن بسبب التمرد المسلح، والانقلابات السياسية، وتمدد التنظيمات الإرهابية العابرة للمنطقة. أما من الغرب، فتوجد أزمة الصحراء الغربية التي تضع الجزائر في محيط سياسي متوتر مع المغرب. هذا الواقع الحدودي فرض على الجزائر اعتماد استراتيجية أمنية وعسكرية تقوم على تأمين عمقها الاستراتيجي، من خلال تعزيز الحضور العسكري في المناطق الجنوبية والغربية، ورفع التنسيق بين وحدات الجيش الوطني الشعبي والدرك الوطني وحرس الحدود. وقد تم إنشاء قواعد عسكرية متقدمة في ولايات تمنراست، برج باجي مختار، عين قزام، وتندوف، لتكون بمثابة خطوط أمامية للمراقبة والردع. رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، أكد في كلمة له خلال إشرافه على الملتقى الوطني حول الساحل الإفريقي، أن “الجزائر رقم أمني فاعل في الساحل”، مشددًا على أن الجيش “يمتلك من الوسائل ما يجعله قادرا على حماية حدود الوطن ومواجهة أي تهديد مهما كان مصدره”.

 

جاهزية عسكرية وتصنيف إقليمي متقدم

وفي مواجهة هذا المحيط المشتعل، لم تكتف الجزائر بتكثيف انتشارها الحدودي، ودعّمت ذلك بجهود متواصلة في بناء جيش محترف يتمتع بأعلى درجات الجاهزية، قوامه التكوين المستمر والتحديث التكنولوجي والانضباط العملياتي. هذه المقاربة الشاملة مكّنت الجيش الوطني الشعبي من التموقع في طليعة الجيوش الإفريقية والعربية، وفق تصنيفات عدة مؤسسات دولية متخصصة. بحسب تقرير “Global Firepower” لسنة 2024، يحتل الجيش الجزائري المرتبة 26 عالميا والثانية على مستوى القارة الإفريقية بعد مصر. ويضم أكثر من 465 ألف عنصر بين قوات عاملة واحتياطية، ويملك ترسانة متطورة تشمل دبابات القتال الرئيسية، عربات مدرعة، وحدات مدفعية ثقيلة، مقاتلات متعددة المهام، غواصات هجومية، ومنظومات دفاع جوي متقدمة مثل “S-400”. وإلى جانب التسلح، ركّزت القيادة العليا للجيش على تأهيل العنصر البشري، من خلال توسيع منظومة التكوين العسكري، التي تشمل الأكاديمية العسكرية لشرشال، المدرسة العليا للطيران، المدرسة العليا للبحرية، والمدرسة العليا للحرب، مع إدخال برامج تكنولوجية وتدريبات عملية تحاكي ظروف القتال الحديثة. وفي هذا السياق، يرى الخبير الاستراتيجي أحمد ميزاب أن الجيش الوطني الشعبي افتك مكانته ضمن مصاف الجيوش المحترفة والمتقدمة، مستندا إلى ما وصفه بخطة متكاملة تجمع بين التكوين النوعي، والتحديث المستمر، والتصنيع العسكري الوطني. وفي تصريح له عبر الإذاعة الوطنية، أكد أن هذه المكانة “ليست مجرد تقديرات داخلية، بل مدعومة بشهادات وتصنيفات دولية تُقر بتطور أداء الجيش الجزائري، وتماشيه مع متطلبات الدفاع العصري”، مضيفًا أن “الاعتماد على التكنولوجيا، والاستثمار في المورد البشري، وبناء منظومة دفاعية وطنية متكاملة، كلها عناصر تؤسس لسيادة مستقرة ومستقبل آمن”.

ميدانيا، نظّمت القوات المسلحة الجزائرية عدة مناورات استراتيجية خلال السنوات الأخيرة، أبرزها “بركان 2020″، “الحصن المنيع 2025″، “صمود 2025″، و”سلام شمال إفريقيا”، وهي تدريبات جمعت بين الذخيرة الحية، والجاهزية متعددة الفروع، والتكامل العملياتي بين القوات البرية والجوية والبحرية، بما يعكس القدرة على تنفيذ عمليات حقيقية في عمق جغرافي صعب. وقد شدد رئيس أركان الجيش، الفريق أول السعيد شنقريحة، ضمن خطاب ألقاه خلال الدورة الـ18 للمجلس التوجيهي للمدرسة العليا للحرب، على أهمية التكوين الواقعي والمكثف، والتدرب على سيناريوهات متغيّرة، كأساس لفعالية الجيش ومهارته القتالية. وقال في هذا الصدد “نحرص في الجيش الوطني الشعبي على إيلاء التحضير القتالي ما يستحقه، من خلال إجراء تدريبات مكثفة تشمل سيناريوهات محاكية للواقع، والحرص على ترسيخ لدى مستخدمينا كيفية الاستجابة بسرعة للمتغيرات الطارئة والمواقف الناشئة، بما يعزز من قدرتهم على استخدام إمكانياتهم بكفاءة ودقة”.

 

عقيدة دفاعية تكرّس السيادة وترفض التدخل

وتتجلى أهمية هذه الجاهزية العالية في طبيعة العقيدة العسكرية التي توجهها. فعلى عكس عدد من الجيوش التي تستخدم قوتها في إطار تدخلات خارجية أو أدوار هجومية، يتمسّك الجيش الوطني الشعبي بعقيدة دفاعية صلبة، تستمد جذورها من ثورة التحرير، وتعكس فلسفة الدولة الجزائرية القائمة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الغير. هذا المبدأ ظل راسخا في السياسات الدفاعية للجزائر، حتى في أكثر الفترات توترا، كالأزمة الليبية، أو خلال التهديدات الإرهابية المتكررة عبر حدود الساحل. ورغم الضغط الإقليمي والدولي، رفضت الجزائر بشكل قاطع إرسال قوات إلى الخارج، مفضّلة الوساطة السياسية على التدخل العسكري. وهو ما جعلها تحظى بثقة عدد من الأطراف المتنازعة.

دستوريا، تم تكريس هذه العقيدة في تعديل 2020، حيث نُصّ على أن مشاركة الجيش في المهام الخارجية لا تكون إلا في إطار عمليات حفظ السلام الأممية، أو بناء على تفويض أممي واضح، وبعد مصادقة البرلمان الجزائري.

وشدّد الرئيس عبد المجيد تبون، في أكثر من مناسبة، على أن “الجيش الوطني الشعبي جيش عقيدته دفاعية، لا يتدخل خارج الحدود، ولا يخوض حروبا بالوكالة، ولا يسمح بوجود قواعد أجنبية على التراب الوطني”. هذا الخطاب الرسمي يتناغم مع التوجّه الشعبي، ويعزز صورة الجزائر كدولة مستقلة القرار ومحايدة المواقف. أما الفريق أول السعيد شنقريحة، فصرّح أن “سلاح الجيش الوطني الشعبي موجّه للدفاع عن أرض الوطن فقط، وليس للمساس بسيادة الغير”، مؤكدًا أن قوة الردع الجزائرية هي قوة لحماية الاستقرار، وليست للمغامرة أو الاستعراض.

 

منظومة حدودية مؤمنة واستباقية

وإذا كانت العقيدة الدفاعية للجيش الوطني الشعبي تستند إلى مبدأ عدم التدخل، فإن ذلك لا يعني التراخي في تأمين الحدود، بل العكس تماما. فقد أصبحت حماية التراب الوطني من التهديدات غير التقليدية أولوية قصوى، تُنفذ عبر منظومة حدودية متكاملة، تجمع بين الانتشار البشري، والتكنولوجيا المتقدمة، والاستباق المعلوماتي. في السنوات الأخيرة، كثّفت الجزائر من إجراءات تأمين حدودها، خصوصا على الجبهتين الجنوبية والشرقية، اللتين تواجهان أخطارا متعددة أبرزها: التهريب، التسلل الإرهابي، شبكات الجريمة المنظمة، وتهريب السلاح والمخدرات. ولهذا الغرض، أنشأت وزارة الدفاع الوطني قواعد متقدمة ونقاط مراقبة دائمة في ولايات تمنراست، إليزي، برج باجي مختار، وتندوف، مدعومة بوحدات قتالية مختصة، وطائرات استطلاع بدون طيار. كما تم تزويد هذه المناطق، بشبكات رادار متطورة، ومراكز قيادة عملياتية، ومراقبة عبر الأقمار الصناعية بالتعاون مع الوكالة الفضائية الجزائرية. وتقوم الوحدات المختصة بعمليات تمشيط دورية ومباغتة، مع اعتماد تقنيات التشويش الإلكتروني والتصوير الحراري، خصوصا في المناطق الجبلية أو الصحراوية الوعرة. وبحسب الحصيلة السنوية الرسمية لوزارة الدفاع الوطني لسنة 2024، فقد تمكنت وحدات الجيش الوطني الشعبي من توقيف 2,621 تاجر مخدرات، وإحباط تهريب أكثر من 36 طنا من الكيف المعالج، إلى جانب ضبط 631 كلغ من الكوكايين، وحجز ما يزيد عن 25 مليون قرص مهلوس. كما تم تفكيك شبكات تهريب أسلحة وحجز 681 سلاحا ناريا، و1,624 مركبة، إضافة إلى كميات كبيرة من الوقود والمواد الغذائية المعدة للتهريب. وفي إطار مكافحة التهريب والتنقيب غير المشروع عن الذهب، تم توقيف 13,722 شخصا، مع مصادرة آلاف المولدات الكهربائية وأجهزة الكشف عن المعادن. كما تم توقيف 29,587 مهاجرا غير شرعي من جنسيات مختلفة، وهو ما يعكس يقظة دائمة على مستوى الشريط الحدودي، وجهدا منسقا لتأمين التراب الوطني من التهديدات المتداخلة. وفي تصريح سابق، شدّد الفريق أول السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، على أن حماية الحدود الوطنية “واجب وطني مقدّس”، يتطلب، حسب تعبيره، “الحفاظ على اليقظة في أعلى درجاتها” لمواجهة كل التهديدات المحتملة. وأضاف في كلمته خلال زيارة ميدانية أن “حدود الجزائر، لا سيما الغربية والجنوبية، خط أحمر”، في تأكيد واضح على مركزية الأمن الحدودي في العقيدة الدفاعية الجزائرية، والرفض القاطع لأي اختراق أو تهديد يأتي من الخارج.

 

تماسك داخلي ودعم سياسي لمكانة الجيش

ولأن فعالية أي منظومة حدودية تتطلب بيئة سياسية ومجتمعية داعمة، فإن الجيش الوطني الشعبي يستند في أداء مهامه إلى تماسك داخلي لافت، يجمع بين دعم القيادة السياسية، وثقة المواطنين، وانسجام مؤسسات الدولة حول أولوية الأمن القومي. هذا التلاحم يعزز فعالية الردع، ويمنح القوة العسكرية الجزائرية عمقا معنويا واستقرارا وظيفيا لا يقل أهمية عن العتاد والخبرة. كما أكد الرئيس عبد المجيد تبون، القائد الأعلى للقوات المسلحة، في أكثر من مناسبة، أن “الجيش الوطني الشعبي هو درع الجزائر الحصين، وركيزة وحدتها، وسليل جيش التحرير في رسالته وأخلاقه ومهامه”، مشددا على أن دعمه غير مشروط من الدولة والشعب. في السياق ذاته، تحظى المؤسسة العسكرية الجزائرية بثقة عالية من المواطنين، تُترجم في تقبّل واسع لتدخل الجيش في الكوارث الطبيعية، وحضوره الدائم في المبادرات الوطنية الكبرى، مثل إخماد الحرائق، وإنقاذ المناطق المنكوبة، والمشاركة في حملات الدعم الاجتماعي. وفي هذا الصدد، أظهرت نتائج دراسة صادرة عن مركز “كارنيغي للسلام الدولي” ضمن بيانات “المؤشر العربي”، أن المؤسسة العسكرية الجزائرية تُعد من بين أكثر المؤسسات التي تحظى بثقة المواطنين، حيث ارتفعت نسبة الثقة بها من 61 بالمائة سنة 2011 إلى 87 بالمائة سنة 2020، في تطور لافت يعكس تزايد الاحترام الشعبي لدور الجيش الوطني الشعبي في حماية الدولة وضمان استقرارها. ووفقا للتقرير، فإن هذه الثقة تستند إلى الأداء الميداني الفعّال، والتزام الجيش بمبادئه الجمهورية، وابتعاده عن الصراعات السياسية الداخلية، ما جعله يصنّف كأكثر مؤسسات الدولة مصداقية واحتراما لدى الجزائريين.

سياسيا، لا تُطرح مسألة حياد الجيش عن القرار الوطني، وإنما ينظر إليه كشريك استراتيجي للدولة في تثبيت الأمن، وحماية السيادة، وتفادي الانزلاقات.

وقد شددت القيادة العسكرية مرارا على التزامها بالدستور ومهامها المحددة، دون تجاوز أو طموحات سياسية، ما عزّز صورتها كمؤسسة منضبطة ومستقرة. هذا التماسك العام بين الجيش والدولة والمجتمع، يمنح للجزائر قدرة على فرض معادلة “الردع الهادئ”، إذ لا تحتاج إلى التصعيد أو الاستعراض، بقدر ما تعتمد على الثقة الداخلية، والمهنية الميدانية، والجاهزية المستمرة. وهو ما يفسّر صلابة الموقف الجزائري في كل التهديدات التي طالت محيطها خلال العقد الأخير. وفي ظل محيط إقليمي يشهد تصعيدا غير مسبوق في التهديدات الأمنية والتدخلات الخارجية، تواصل الجزائر تموقعها كقوة رادعة عقلانية، تستند إلى جيش محترف، وعقيدة دفاعية راسخة، ومنظومة حدودية يقظة، وتماسك داخلي يمنح قراراتها قوة وشرعية. الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، يمثّل ركيزة من ركائز السيادة الوطنية وأداة فعّالة في حفظ الاستقرار الإقليمي، دون التفريط في مبادئ عدم التدخل واحترام سيادة الدول. وبينما تحيي الجزائر ذكرى استقلالها الثالثة والستين، يتأكد أن السيادة الحقيقية لا تكتمل إلا بمؤسسة عسكرية قوية، تحمي ولا تهاجم، تردع ولا تستعرض، وتُجسّد في كل موقفها المعنى الأعمق لكلمة “استقلال”.

م. ع