إن سنة الله في عباده لا تتخلَّف، ووعدَه لأوليائه الصابرين لا يُخلف، فبفضل الله عز وجل على هذه الأمة لم تذهب تضحيات آبائنا وأجدادنا سدًى، بل تُوِّج صبرُهم نصرا، وخوفُهم أمنا، وبلاؤهم حُسْنًا، ووحدةُ صفِّهم حُبًّا وألفة، وتمسُّكهم بتربة وطنهم الطاهرة حريَّةً وعزَّة وكرامةً، ودُحر المستدمر الغاشم، وأعزَّ الله جند الإسلام، وأعلى راية التوحيد في سماء العالمين، ودوت المآذن بكلمات الحق المبين، هذه مسيرة أبطالكم من شهدائكم ومجاهديكم؛ ممن رفضوا الذل والخضوع لأعداء الله والوطن، ونشدوا الحرية والعزة التي ننعم بها اليوم، فقد أكرمنا الله عزَّ وجل بها، لأن أمتنا أهلٌ للعروج إلى معارج السؤدد، والرُّقِيِّ إلى ذُرَى المجد والرِّفعة، قال تعالى “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون” المنافقون: 8. إن الله عز وجل كتب على الأمم والحضارات والمجتمعات قضاء لا يتخلَّف، فقال تعالى “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمَّرناها تدميرا” الإسراء: 16. إن دولة الظلم والجبروت مهما طغت وتجبرت، فإنه سيأتي عليها يوم ويكسر الله شوكتها، ويذيقها عذاب الهون: أين الحضارات المتجبرة الغابرة؟، أين حضارة عادٍ التي لم يُخْلقْ مثلها في البلاد، فأخذهم الله حين طغوا وتجبروا؟، أين حضارة ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب حين ظلموا وبغوا؟، أين الحضارة الفرعونية بسلالاتها الحاكمة، ألم يُذِقِ الله من تجبَّر منهم سوء العذاب، وهذا فرعون موسى قد أغرقه الله وجنده في اليمِّ؛ وجعله عبرة للمتكبرين؟، أين حضارة روما، أين حضارة فارس؟، أين دولة الاستدمار الغاشم التي جثمت على أنفاسنا قرنا وثلثا، لقد غَدَتْ كأنها أضغاث أحلام، وبالمقابل فإنَّ دولة العدل والحقِّ والحبِّ والتَّسامح سيعلو شأنها في يوم من الأيام ولو خبا صوتها، وانطفأ نورها دهرا من الزمان، “وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم” التوبة: 40. لقد ألهمت ثورتُنا المجيدةُ مشاعر كلِّ الأحرار في العالم، فكانت قدوةً لكلِّ من ينشد الحرية، وأسوةً لكلِّ من يرومُ العزة والكرامة، وذي فلسطينُ الأبية تقتفي آثار ثورة نوفمبر، فتسطِّر ملحمةً عزَّ نظيرها؛ وقلَّ مثيلها في هذا الزمان، فلله درُّكِ يا قدسُ، يا أولى القبلتين، وثالثَ الحرمين، ومسرى سيِّد الثقلين، قفي شامخة شموخ الجبال، وسِيرِي نحو نصرٍ أكيد، يُسَطَّرُ على أيدي الأبطال، ولا تلتفتي للمخذِّلين من أشباه الرجال، وحفاظا على أمانة الشهداء، كان لزاما على كل فرد من أفراد هذه الأمة أن يسدِّد ويقارب، ويتحمَّل مسؤولياته كاملة، ويستشعر ثقلها، ليتشبه بهؤلاء الشهداء الأخيار، وإن لم يصل إلى درجتهم، فحافظ أيها المسلم على أمانة الشهيد؛ في أي شبر من بلادنا العزيزة، انبذ خلافاتك وراء ظهرك، ولا تُقِم لها وزنا أمام أخوة الإسلام ولُحمة الوطن، إنه لا قيمة لإيديولوجية؛ أو عنصرية؛ أو جهوية؛ أو فكر؛ أو انتماء؛ أو حسب؛ أو نسب؛ أو لون؛ أو عَرض من أعراض الدنيا؛ أمام نسب الإسلام؛ ورحم الإيمان؛ ووحدة التراب؛ والوفاء لشهداء الوطن.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر