كان الفاتح من نوفمبر من سنة 1954 تاريخ انطلاقِ رصاصةِ الغضب في الجزائر؛ رفضًا للمستعمِر الفَرَنسي، وبالضبط في جبال الأوراس بمدينة باتنة الجزائرية، لم تكن رصاصةً طائشة بضغطِ زناد التسرُّع، ولم تكن عشواء أو بكماء.. لم تكن لإعلان الحرب لأجل الحرب وفقط، بل انطلقت لتعطي دروسًا في رد الاعتبار، باعتبار أن الجزائر سيدةُ نفسِها، ولا أحد يملك هذه السيادة عليها إلا صاحبة القرار. لقد كان الجدل قائمًا قبل الثورة حول وجود الدولة الجزائرية، وإبَّان الاحتلال احتدم الجدال لامتلاك الجزائر؛ لما فيها من ثروات وخيرات أنعم الله بها عليها، ولا يزال البحث والدراسات تسيل الكثير من الحبر، وتغالط بعض الأحداث؛ لتضليل الحقيقة التاريخية للثورة المجيدة، والتي مجدت نفسها بنفسها بأحداث زلزلت أرض الجزائر لينفجر بركان التقوى من قلب الجزائر. لقد كان الإسلام ولا يزال مقومًا أساسيًّا للمجتمع الجزائري من عرب وأمازيغ، وعلى كل حالٍ، ومهما كانت نظرة الفَرَنسيين إلى تاريخ الجزائر فإن موقفهم من محاولة أن تبقى الجزائر تحت سيطرتِهم كان هو السببَ المباشر لاندلاعِ ثورة نوفمبر، هذه الأخيرة التي لم يكن صداها داخل الجزائر وفقط، بل امتدَّ إلى العالم برمته.
وها هو التاريخ بمحتوياته من آثار، وشهادات حية، ومدونات، وأبحاث، وكتب، ومخطوطات، واعترافات، تدون كلها لأسطورة هذه الثورة العظيمة. فقد اعتمدت الثورة التحريرية المجيدة على رصيدٍ نادر غير قابل للظهور من جديد، ممثلاً في أبناء الجزائر الذين أبَوا إلا أن يضحُّوا بكل ما لديهم في سبيل أن تتحرر الجزائر من أيدي ” المستدمِر ” الغاشم، وأن ترفرفَ رايتُها على قممِ أرض الجزائر، فلم تستطع لا الاتفاقيات ولا المعاهدات ولا البعثات الدبلوماسية أن تكبِّل هذا المشروع الثوري الخالد، وبالتالي بقاء الجزائر ملكًا لفرنسا بفَرْنَسةِ كلِّ ما هو للجزائر ينتمي، لكن هَيْهَات لتخطيطٍ أن يحجبَ إرادات فذَّة صهرت حديدًا وأذابت جليدًا، وفجرت براكين من تحت الأرض؛ لأنه إيمان الثوَّار، ورغبة المجاهدين، وإرادة الجزائريين في أن تسترجع سيادة الجزائر. حقيقة يليق لهذه الثورة أن تعرف نفسها بنفسها لكل قارئ، من أنها أظهرت بطولات شعب رفض كل أشكال الاحتلال والسيطرة، كما تبنَّت البعد التاريخي والأخلاقي لإخلاص أبناء الجزائر على اختلاف مستوياتهم وجنسهم وسنهم، فأعلنت المرأة مساندتها لأخيها الرجل ليتوحَّد الصف والكلمة في أن تحيا الجزائر حرَّة مستقلة. التاريخ وحده يدوِّن التميز والريادة، وشواهد العصر تتكلم بالنيابة عن ثورة مجيدة وعريقة وكبيرة في حجمها وثوابتها.. دامت الجزائر حرة مستقلة، وكل بلاد عربية مسلمة، فعبق الحرية غالي الثمن، ولا يقتص إلا بسواعد أبناء الوطن.. أحِبُّوا أوطانَكم ومجدوا أبطالَكم بالوفاء والمحافظة على الأمانة.. أمانة الدم والروح.