إن المتأمِّلُ في تعاليم الدِّين الإسلامي الذي جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم مِن عند الله عزَّ وجلَّ التَّوازنَ فيها بين مختلف الجوانب في الحياة الإنسانية؛ بين مطالب الجسد المادِّيَّة مِن أكْل وشُرب وزواج وحقوق، وبين مَطالِبِه الروحيَّة مِن عبادةٍ لله وتزكيةٍ للأخلاق، وبين مَطالِبِه الفكرية والعقلية مِن حُبٍّ للعِلم والاطِّلاع والاكتشاف.
فقد وازَنَ الإسلامُ بين هذه المطالب كلِّها في اتِّساق لا طُغيانَ فيه لجانب على جانب؛ بل أكَّد على ذلك بالنهي عن الغُلُوِّ والإفراط، كما نهى عن التفريط والإهمال، وأَمَرَ بالتوسُّط والاعتدال في جميع الأحوال، ولم تأتِ الشريعةُ إلا بتنظيم تحقيق تلك المطالب، وبيان حدودها التي لا تَتصادم مع فطرة الإنسان ووظيفته التي خُلِق مِن أجْلها، ألا وهي عبادة الله وعمارة الأرض بالنافع والصالح، فأباحت الشريعةُ كلَّ شيء فيه منفعة راجحة للإنسان، ونَهَتْ عن كل شيء فيه مفسدة ومَضَرَّة على حياة الإنسان أو عقله أو ماله أو جسده. قال تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الجاثية: 13؛ فلم يَخْلُق اللهُ تعالى هذا الكونَ ليبقى هملًا غير مُستَثمَر، أو لينعزل عنه الخلْق، والتعبير بـ “سَخَّرَ” فيه معنى التذليل والتسهيل لاستكشاف هذا الكون، والاستفادة مِن مكنوناته وكنوزه.
وقال الله تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” القصص: 77. وقال تعالى: “رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ” النور: 37، فهم مع تجارتهم لم يُهمِلوا الجانبَ الروحي والتعبُّدي والخلقي الذي يَدفع إليه الإشفاق مِن الحساب بين يدي الله في الآخرة، فلنتصوَّر كيف يكون سُلُوك مثلِ هؤلاء التُّجَّار بمثل هذه العقيدة وهذه الأخلاق، ثم لنتصوَّر كيف تكون الحياة لمجتمع فيه أناس كهؤلاء في مجالات أخرى مِن مجالات الحياة!.