داء اجتماعي خطير، يُورِث الكراهيةَ، ويُنبِت العداوةَ، ويُمزِّق العَلاقاتِ، ويزرع الضغائنَ، ويُفرِّق الجماعاتِ، ويهدد الاستقرار، وينشر القطيعة، مرض كريه، يبني جدارًا صلبًا بين المبتلى به وبينَ الآخَرين، ويمنع التفاهمَ، ويُغلِق بابَ الحوار، يعمم في الأحكام، ويزدري المخالِف؛ إنه -وقاكم الله- داء التعصب ومرض العصبيَّة. التعصب داء فتَّاك، هو عِلَّة كل بلاء، جمود في العقل، وانغلاق في الفكر، يعمي عن الحق، ويصد عن الْهُدَى، ويثير النعرات، ويقود إلى الحروب، ويغذي النزاعات، ويطيل أمد الخلاف. التعصب عنف وإقصاء، التعصب يدعو إلى ستر الحق؛ لأن صاحبه يرى في الحق حجة لمخالفه، والتعصب يقلل من فرص التوصل إلى الحلول الصحيحة، وينشر الظلم، وهضم الحقوق، ويضعف الأمة، وينشر الفتن والحروب الداخليَّة. التعصب غُلُوٌّ في الأشخاص، وفي الأُسَر، وفي المذاهب، وفي القوم، والقبيلة، وفي الطائفة، وفي المنطقة، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وفي الرياضة، وفي كل شأن اجتماعي. تأملوا هذا الموقف النبوي الحازم الصارم؛ فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه،قال: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ -أي: ضرب- رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟”، ثم قال: “دَعُوهَا فَإِنهَا مُنْتِنَةٌ”.
الهجرة والنصرة وصفان شريفان كريمان، والمهاجرون والأنصار هم الأولون السابقون، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولكن لما أراد هذان الرجلان توظيف هذه الألقاب الشريفة، والنعوت الكريمة توظيفًا عصبيًّا فزع النبي صلى الله عليه وسلم وبادر باحتواء الموقف بقوله: “أبدعوى الجاهليَّة”؛ أي أن شرف الهجرة وشرف النصرة تحول بالعصبية إلى نعت غير حميد، بل صار مسلكًا منتنا مكروهًا، وصار من دعوى الجاهليَّة: “دعوها فإنَّها منتنة”، فلا أشد إنكارًا من هذا الوصف، ولا أعظم ذما من هذا النعت، ومما يقي من التعصب القوة والعزيمة في نبذ العادات والأعراف الخاطئة، والتقاليد المجافية للحق والعدل، هذا كله من مسؤوليَّة أهل العلم والفضل والصلاح والوجهاء، ورجالات التربية والغيورين على الأمة، والعمل على بناء الإنسان السوي، وإشاعة الصلاح والإصلاح، ومقاومة الفساد بكل أشكاله، وقبل ذلك وبعده الإخلاص، وحسن السريرة، ونشر المحبة في البيت وفي المدرسة وفي السوق، وفي الإعلام، في كل وسائله وأدواته، وسلامة النفس من الأحقاد والتحرر من الأنانية، يجمع ذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم في كلمته الجامعة: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
من موقع وزارة الشؤون الدينية