التشريع في الإسلام

التشريع في الإسلام

إن الحديث عن سنة التجديد لا تنفك أبدا عن منهج الإسلام في التغيير، إذ إن من أهم ضوابطه التدرجَ فيه وفق طريق مدروس بعناية فائقة، وهذا ما لمسناه يقينا في فلسفة الوحي في التشريع، فالقرآن لم يصُبَّ أحكامه وفرائضه في حياة الناس جملة واحدة، ولكنه سعى بهم إليها على مراحل؛ وفي خطوات رُتِّب بعضُها على بعض، ومهَّدَتِ السابقة منها للاحقة، فنجده في المرحلة المكية قبل الهجرة ركَّز على ترسيخ العقيدة السليمة في قلوب الناس حتى تتوجه الأفئدة بالعبادة والإخلاص لله رب العالمين،والإنابة إليه، والتوكل عليه؛ “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ”، وإذا ما أذعنت قلوب الناس لرب العزة سهُل عليهم أن يتقبلوا أحكامه ويطبقوا أوامره، فيثمرُ هذا الامتثال لشريعة الله أخلاقا حسنة وخلالا حميدة، وهذا هو المنهج النبوي ذاته؛ كما روي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: “إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”. وأبرز مثال على سنة التدرج في القرآن الكريم تحريمُ الخمر الذي مرَّ بثلاث مراحل: أما المرحلة الأولى فقد ذكر القرآن محاسن الخمر ومساوئها وأجرى المقارنةَ بينهما، ثم خلَصَ إلى أضرارها ومفاسدها، قال تعالى “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا “. وأما المرحلة الثانية: فقد حرم القرآن على المسلمين قربان الصلاة في حالة السكر، حتى لا يدخلوها وعقولهم مغيبة لا تعي ما تقول، ولا تدري ما تفعل، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ”. وأما المرحلة الثالثة: فقد فصَلت في مسألة تحريمه فصلا نهائيا، لأن النفوس قد تهيأت لقبول الأوامر الإلهية، ولو كانت فيها المشقة والعسر، فلما نزل قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، قال الصحابة: انتهينا يا ربنا، انتهينا، وجرت سكك المدينة أنهارا ووديانا من الخمر التي أراقها المسلمون المخبتون المنيبون لربهم.

 

من موقع الالوكة الإسلامي