تَّرَفُ داءٌ عُضالٌ، ومرضٌ مُهلِك، إن استشرَى في أمَّةٍ ذهبَ بعزِّها وعلَّقَها بالحياة الدنيا، وإن التصقَ بشخصٍ كان ذلك إيذانًا بضعفِه وإعلامًا بوهْنِه. التَّرَفُ هو التوسُّعُ في ملاذِّ الدنيا وشهواتها، والانغِماس في الحياة ومُجاوزة حدِّ الاعتدال في التعامُل مع النِّعَم، وبذلُ الجُهد لبُلوغ الغاية في حاجات اللَّذَّات الحسِّيَّة. إن الإغراقَ في التَّرَف يُورِثُ غُرورًا واستِعلاءً وظلمًا وبطشًا، ويجُرُّ إلى تكذيبِ الحق ورفضِ قَبولِه، ” وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ” سبأ: 35. وقد ينسَى المُترَفُ فضلَ الله وأنه المُعطِي المُتفضِّل؛ فهذا صاحبُ الجنَّتين يقولُ لصاحبِه بكِبرٍ: ” أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ” الكهف: 34، نسِيَ حالَ الدنيا ومآلَها، وسُنَّةَ الله فيها، ” وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ” الكهف: 35، بل نسِيَ القيامةَ والساعةَ وجزاءَ الله العاجِل، ” وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا” الكهف: 36.
قارونُ الذي أعطاه الله من الكُنوز والمال، ورَّثَه ذلك طُغيانًا على قومِه، نسِيَ نعمَ الله عليه وعظمتَه، وقال برُوح الاستِكبار: ” إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ” القصص: 78. التَّرَفُ المُهلِكُ جعلَ فرعونَ ينظرُ نظرةَ المُتألِّهِ على قومِه: ” يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي” الزخرف: 51. ومن مظاهر التَّرَف: التعلُّقُ بالتوافِه، وضعفُ التفكير في الحال والمآل، وانتِشارُ التقلِيد، وعدمُ الحِرصِ على الطاعة، والتوانِي عن القِيام بما يُقرِّبُ من الآخرة، والمَيْلُ إلى الدَّعَة والرَّاحَة، واقتِحامُ سُبُل الشهوات، وعدمُ المُوازنَة في الحياة، والتأثُّرُ بضغط الواقِع، وظهورُ العجز والكسَل. ومن التَّرَف: إنفاقُ الأموال الكثيرة في أمورٍ يتجاوَزُ بها المرءُ الحدَّ المعقولَ الذي قد يُفضِي إلى الحرامِ، والإكثارُ من المآكِل والمشارِب والبَذَخ فيها. وبهذا تنقلِبُ النعمةُ نقمةً، قال الله تعالى: ” كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ” العلق: 6، 7. التَّرَفُ يُبدِّدُ الأموالَ، ويُميِّعُ العزيمةَ، ويُذيبُ الإرادة، ويُورِثُ العُجبَ والغفلةَ، ويجعلُ المُترَفَ يتفنَّنُ في تصيُّد المُتَع من كل وجهٍ، ويتسابَقُ إلى ارتِكابِ المُحرَّمات والمُوبِقات، فتُصابُ الأمةُ في ميدان التقدُّمِ بالرُّكُودِ، والتنمية بالخُمولِ؛ لأن الهِمَم هبَطَت، والطاقات استُنزِفَت، والنفوسَ أصابَها البطَرُ والطُّغيان كما تُصابُ القلوبُ بالغَشاوة.