كان جميع الأولياء في الماضي يتبعون نظاما تربويا واحدا متوارثا جيلا بعد جيل، دون أن يحتاج الأمر لدراسات وبحوث حول المنهاج التربوي، لكن الجيل الحالي من الأولياء يختلفون في الأسلوب التربوي خاصة بظهور مدارس تربوية مختلفة، وكانت أبرزها المدرسة الحديثة، لتظهر مؤخرا مدرسة أخرى بدأت تلقى الاهتمام وهي مدرسة “الإهمال الحميد”.
تدعو مدرسة “الإهمال الحميد” لخفض مستوى سقف السلطة الأبوية والعناية المفرطة بالأبناء وترك المساحة للطفل لتكون له بعض الاستقلالية في التجربة والخطأ أيضا.
تشجيع على اتخاذ القرارات
تلقى مدرسة التربية بـ “الإهمال الحميد” العديد من الانتقادات والجدل حول مدى فعاليته وفوائده في التعامل مع الأطفال، وهو ما أرجعه المدافعون عنها إلى أنه غالبًا ما يُساء فهم مدرسة “الإهمال الحميد” في التربية، لكن هذه المدرسة قد توفر أحيانا فوائد عديدة لنضوج الطفل. فهي ترتكز على توفير بيئة آمنة للصغار مع منحهم الحرية لاكتشاف العالم والتفاعل معه بأنفسهم لتشجيعهم على الاستقلالية.
كما يحث هذا النهج التربوي على خلق بيئة يتم فيها تشجيع الأطفال على اتخاذ القرارات والخيارات بأنفسهم ثم التعلُّم من النتائج سواء كانت إيجابية أو سلبية ومهما كانت، كما يحث على الحد الأدنى من تدخُّل الوالدين ما يسمح للطفل بمواجهة مشاكله وحلّها.
في هذا السياق، تقول “مريم” أم لثلاثة أطفال إنها من الأولياء الذين يتبعون أسلوب التربية “الإهمال الحميد” وذلك لأنها تؤمن بأهمية اكتشاف شخصيته ونموها من خلال التجارب، وتؤكد أنها تضع لأولادها إطارًا عاما يضمن سلامتهم والذي لا يجب تجاوزه، ولكن في هذا الإطار أترك لأبنائي الحرية في استكشاف اهتماماتهم.
وتوافقها الرأي أختها “أمينة” التي ترى أن السر في مدرسة
“التربية بالإهمال” يكمن في التوازن؛ حيث يحرص الآباء في هذا النهج التربوي على معرفة متى يجب التدخُّل، ومتى تسمح لطفلك باتخاذ قراراته بمفرده والتعامل مع النتائج بمفرده أيضا.
وبحسب الخبراء، يتعلم الأطفال من خلال “التربية بالإهمال الحميد” قيمة الاستقلال، وتأثير اختياراتهم، وقوة أفعالهم، والمرونة مع النتائج بصورة مستقلة ومسؤولة، وبالرغم من فوائده المحتملة، يثير هذا النهج الكثير من الجدل والانتقادات.
“الإهمال لا يكون حميدا”
يقول عالم النفس الأمريكي بارتون غولد سميث في مقال بموقع “سيكولوجي توداي” المختص في علم النفس والصحة العقلية، إن “الإهمال لا يمكن له أن يكون حميدا أبدا، فهو مؤذٍ ومسيء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأطفال”.
ويلفت إلى أنه عندما يتم إهمالك كطفل، سيصبح لديك دائمًا شعورا بالتهديد والقلق ممن حولك، وقد يخلق لديك ميول تعلُّق، وميلا للمعاناة من نمط الارتباط القَلِق والخوف من الهُجران في المستقبل.
في المقابل، يرى خبراء في علم النفس أيضا أن عدم السماح للأطفال بالاستكشاف والإخفاق بمفردهم يحرمهم من قدرتهم على تحمُّل مسؤولية أنفسهم وأفعالهم، والأهم من ذلك، تحمُّل النتائج أيضا.
خاصة وأن هذا الافتقار إلى امتلاك المسؤولية الذاتية يمكن أن يكون له تأثير مدمّر في شخصية الطفل، ويمكنه أن يستمر إلى أن يصبح الشخص بالغا، ويُصبح غير قادر على اتخاذ القرارات الحاسمة والحساسة.
ومع ذلك، يشدد مؤيدو مدرسة “التربية بالإهمال” على سوء فهم مصطلح “الإهمال الحميد”، باعتبار أن الأمر أبعد ما يكون عن الإهمال.
وحول هذا الموضوع، قالت الخبيرة في التربية والأمومة تريسي بيريمان إنه من المهم جدا مساعدة الأطفال على تعلُّم كيفية تحديد متى تكون المساعدة مطلوبة حقا، بدلا من نظر الأبناء إلى أحد الوالدين لحل جميع مشاكلهم وإكمال جميع المهام المطلوبة عوضا عنهم.
كما حذرت المختصة من ميل الآباء والأمهات الجدد لهذا النهج في التعامل مع الأبناء بشكل كبير، وذلك من أجل التنصُّل من مسؤوليات التربية بدعوى تحقيق الأهداف الشخصية، لأن ذلك من شأنه أن يخلّ بمفهوم الأسرة، ويؤثر على نضج الأبناء بصورة سوية.
ومع ضرورة الوضع في الاعتبار أن “الإهمال الحميد” لا يعني إهمال احتياجات الطفل؛ بل يتعلق الأمر بالتخفُّيف من اتخاذ كافة القرارات بدلا عن طفلهما ومواجهة المواقف بدلا عنه.
الموازنة الفعالة
يتلخص مفهوم التربية الجيدة في تلبية احتياجين أساسيين لأطفالنا، هما الراحة والاستكشاف، ولكن عندما نبالغ في بذل الجهد من أجل أطفالنا، فإننا نوصل لهم عن غير قصد رسالة مفادها أنهم غير قادرين على القيام بالأشياء بأنفسهم.
ويقول المؤيدون لمدرسة “التربية بالإهمال” إن السماح للأطفال بالتغلب على التحديات سواء تعلم ربط أحذيتهم أو التغلب على الملل وإيجاد ما يملأ الفراغ، يبني الثقة بالنفس لأن الهدف هو أن يرى الأطفال أولياءهم كمصدر للراحة عند الحاجة، وليس كعكاز يعيق رحلتهم نحو الاكتفاء الذاتي.
ق. م