أظهرت دراسة نشرت العام الماضي أن امرأة من بين كل عشر نساء جزائريات تتعرض للتحرش الجنسي في أماكن العمل، وأن فعل التحرش عادة ما يأتي من صاحب العمل أو المسؤول المباشر، وأرجعت ذات الدراسة الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع أو انتشار الظاهرة بشكل لافت في أوساط العاملات والطالبات إلى سلسلة الأزمات التي يعرفها المجتمع، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية التي تجعل أكثر من نصف السكان تحت خط
الفقر، ومن ثم فالكثير من النساء يُعلن أسرا أو يساهمن بشكل مباشر في ميزانية البيت، ما يعني أن الحصول على منصب شغل يضاهي البقاء فيه، فصاحب الشركة أو المسؤول المباشر عندما يلجأ إلى فعل التحرش يكون عادة متأكدا أن المرأة سترضخ في النهاية لأنها مجبرة تحت الحاجة الاجتماعية إلى قبول مثل هذه التصرفات، وحتى إن رفضتها فلن تجرأ على فتح فمها لأن المجتمع سيتهمها بشكل مباشر، لسبب أو لآخر.
مهام ريادية ونظرة ما تزال مُريبة !
قطعت المرأة الجزائرية العاملة أشواطا كبيرة وريادية في ميادين العمل، أبرزت من خلالها جديتها وكفاءتها المهنية فاستطاعت بذلك تقلد مناصب رفيعة في شتى المجالات، ما جعلها تحظى بمكانة بارزة بين أوساط المجتمع وشرائحه، لكن هذا لم يجعلها في مأمن من أطماع النفوس البشرية المريضة التي لازالت متمسكة بالاعتقادات الجاهلية وراكضة وراء نزواتها الجسدية، فظاهرة التحرش المعنوي والجنسي في أماكن العمل أصبحت كابوسا يقف في وجه الكثيرات ويعرقل مسيرتهن المهنية، وهو ما تؤكده عديد الدراسات السوسيولوجية.
ترى النساء اللواتي تحدثت إليهن “الموعد اليومي” أن الشارع والأماكن العامة لم تعد آمنة على الاطلاق نظرا لتعرضهن للمعاكسات والمضايقات من مختلف شرائح المجتمع، كون هذه الظاهرة لم تقتصر على الكبير أو الصغير، إنما شملت كافة الأعمار من الطرفين سواء من جهة المتحرش أو من جهة الضحية، والأخطر من ذلك حينما تتعدى هذه الظاهرة التحرش المعنوي المجسد في الكلام إلى التحرش الجنسي الذي يعتبر تعديا على حرمة النساء وحقهن في التنقل والعيش بسلام وكرامة، “الموعد اليومي” وقفت عند العديد من القصص المتنوعة من التحرش الذي تتعرض إليه النساء في الأماكن العمومية كالشارع والأسواق وحافلات النقل، حيث يقدم العديد من المرضى نفسيا على التحرش بالنساء من خلال التحدث إليهن بكلام غير لائق، بالإضافة إلى ايماءات وأفعال مخلة بالحياء كاللمس، فقد صرحت “نوال” وهي طالبة جامعية صادفناها في محطة للنقل العمومي أنها تتعرض باستمرار للتحرش بمختلف أنواعه خصوصا في وسائل النقل، وتضطر في العديد من الأحيان إلى النزول من الحافلة والمشي ابتعادا عن المتحرش، أما “صليحة” وهي شابة عشرينية تعمل في مؤسسة عمومية، فقد استنكرت بشدة الأفعال التي يقوم بها المتحرشون الذين ينتشرون في الشوارع والحافلات، ما يحرم المرأة من التنقل بأمان وحرية. هذه الحوادث التي قصتها لنا النساء اتفقت في الأقوال والأفعال، غير أن ردة فعلهن كانت مختلفة، فمنهن من صرحت بأنها تدافع عن نفسها حينما تتعرض للتحرش غير مبالية بردة فعل الأشخاص المحيطين بها ونظرة المجتمع إليها، ومنهن من قالت بأنه في بعض الأحيان تضطر إلى تقديم شكوى لدى مصالح الأمن ضد المتحرش بها ومتابعته قضائيا خصوصا حينما يتمادى في فعله.
من جانب آخر، صرحت بعض النساء بتحفظهن عن التبليغ، حيث تكتفين فقط بالابتعاد عن المتحرش خوفا من نظرة المجتمع الذي يلقي اللوم دائما على المرأة ويعطي الحق للرجل.
ابتزاز ومساومة.. يوميات امرأة بسيطة
تمثل الأوساط المهنية أماكن محترمة تتشبع بالقيم والأخلاق، غير أن هذه الصفات لم تعد متوفرة في الكثير من أماكن العمل نظرا لتفشي ظاهرة التحرش المعنوي والجنسي التي لم تعد تقتصر على الشارع ووسائل النقل فقط، بل أضحت منتشرة بكثرة في هذه الأماكن التي من المفروض أن تكون ملجأ آمنا للمرأة، لكن ما يمارسه المسؤولون والمديرون والزملاء على النساء اللاتي يعملن معهن من تحرش معنوي وجنسي جعل العمل بيئة خصبة لانتشار هذه الظاهرة نظرا للمشاركة الكبيرة للنساء العاملات في ميادين العمل، حيث تقضين معظم أوقاتهن فيه، هذا ما جعل المتحرشين يستغلون جميع الفرص للإيقاع بضحاياهم، حيث أجمعت النساء اللاتي خضن معهن الحوار على أن هذا التحرش يصدر من الأشخاص الذين يتمتعون بالنفوذ والسلطة، حيث يهددون النساء العاملات بالطرد من العمل إذا قمن بفضح أفعالهم، فيقوم هؤلاء باستغلالهن وإشباع غرائزهم. كما تعتبر العاملة الأكثر أناقة وجمالا أكثر تعرضا للتحرش المعنوي والجنسي خاصة إذا كانت سكرتيرة، حيث يطلب منها على الدوام الظهور بشكل أنيق وجذاب نظرا لقيامها باستقبال شخصيات مهمة وقربها الدائم من المدير، هنا يتهم العديد من الرجال المرأة بأنها من تقوم بتحريك مشاعر الرجل بسبب اللباس والاختلاط بزملائها في العمل، هذه الادعاءات جعلت الرجل المتحرش يحتمي تحت مظلة العادات والتقاليد ويوجه أصابع الاتهام للمرأة غير مبالي بالأذى النفسي والمادي الذي يسببه لها، كما أكدت مجموعة من العاملات أن التحرش في العمل بجميع أشكاله من أبشع صور الانتهاك لحقوق المرأة وكيانها، لهذا يجب الخروج من بؤرة التخلف الاجتماعي المظلم واعطاء حيز كبير وواسع لمناقشة هذه الظاهرة من أجل اخراجها من قائمة الطابوهات لأنها تمس أهم فئة في المجتمع وهي المرأة التي تمثل الأم والأخت والزوجة ومربية الأجيال التي من الواجب احترامها والدفاع عنها، وفي السياق ذاته روت لنا “س” إحدى النساء العاملات قصتها مع التحرش الذي تعرضت له من طرف مديرها في العمل، حيث قالت إن البداية كانت عبارة عن كلام معسول يعبر عن الاعجاب بها، لكن الأمر تطور إلى التحرش الجنسي ومحاولة الاعتداء عليها، هنا قالت المتحدثة “لم أستطع ضبط أعصابي أو السيطرة عليها، فقمت بصفعه والهرب خارجا”، وكردة فعل معاكسة من المتحرش، قام بطردها من العمل، أما “ر” وهي شابة في العشرينيات من عمرها تعمل في إحدى المؤسسات العمومية، فقد صرحت بأنها تعرضت للتحرش من طرف زميل لها في العمل، ما جعلها ترفض البقاء في تلك المؤسسة والبحث عن عمل في مكان آخر. هذه إحدى القصص التي روتها بعض النساء العاملات التي تعبر عن معاناتهم الكبيرة مع هذه الظاهرة اللاأخلاقية.
الخوف من الفضيحة وفقدان العمل يخرسان المرأة
تعيش العاملات كل يوم معاناة وخوفا كبيرين في ظل الانتشار الواسع لظاهرة التحرش المعنوي والجنسي في أماكن العمل، إلى جانب عزوف النساء اللواتي تعرضن للتحرش عن التبليغ، ما فتح الباب على مصراعيه أمام المتحرشين الذين يسعون دائما إلى صيد فرائسهن اللواتي يتصفن بالضعف والخوف، هذا ما رصدناه خلال قيامنا باستجواب بعض النساء العاملات اللواتي تعرضن للتحرش وأخفين ذلك، والسبب هو خوفهن من الفضيحة، خاصة وأن بعض المتحرشين يهددون النساء بأنهم سوف يفضحونهم أمام الناس ويدعون باأن النساء هن من تقمن بالتحرش بالرجال نظرا للمنصب الرفيع الذي يتقلدونه، فيكون الطمع هو السبب، أما بعض العاملات الاخريات فقد فضلن عدم التبليغ نتيجة لخوفهن من فقدان العمل في ظل حاجتها للمال لأن أغلب العاملات تقوم بإعالة عائلاتهن، هذا ما يبرر عزوفها عن التبليغ خوفا من التعرض للطرد.
رغم أن القانون يجرم المتحرشين ظاهرة التحرش في تزايد مستمر والإحصائيات تدق ناقوس الخطر
إقرار تطبيق ما سمي بقانون مكافحة التحرش في الشوارع الجزائرية ليضفي مزيدا من الجدل بشأن الحضيض، الذي بلغته أخلاق عدد كبير جدا من الجزائريين الذين باتوا بحاجة إلى ردع قانوني، يمنعهم من ارتكاب الموبقات في ظل لامبالاتهم بالقيّم الأخلاقية والضوابط الشرعية والروادع الدينية..، وتعرف ظاهرة التحرش المعنوي والجنسي في أماكن العمل ازديادا كبيرا يعكس خطورة الوضع الذي يستدعي تحركا سريعا من الجهات المعنية من أجل حماية المرأة، خصوصا وأن القانون لم يعد يشكل مصدر خوف لدى المتحرشين بالرغم من أن المادة 341 مكرر من قانون العقوبات لسنة 2003 تنص على أن التحرش الجنسي من جانب أشخاص في مناصب ذات سلطة جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة تقرب من عام أو عامين في حالة تكرار الجريمة. هذه العقوبة لم تردع المتحرش عن قيامه بأفعاله الخاطئة وهذا ما تكشف عنه الإحصائيات التي صرحت عنها مختلف الهيئات والسلطات المعنية، ما جعل هذه الظاهرة تأخذ أبعادا خطيرة خصوصا خلال السنوات الأخيرة حسبما تؤكده شكاوى وشهادات ضحايا هذه الجريمة اللاأخلاقية التي رغم خطورتها إلا أننا لمسنا نقصا كبيرا في البحوث و القوانين التي تخص هذه الظاهرة.