ما تزال مدينة البليدة عاصمة المتيجة تحتفظ بالعديد من أثار التواجد العثماني بالمنطقة، وذلك من خلال المعالم والشواهد التاريخية المشيدة والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى أسماء العديد من الأحياء والمفردات التي
لا تزال متداولة على ألسن أهلها بما لا يدعو للشك لتلك العلاقة الوطيدة التي جمعت بين أهلها والوافدين عليها.
وتتجلى هذه الآثار في المباني المشيدة في تلك الحقبة الزمنية والتي لا تزال اليوم تقاوم من أجل بقائها أمام متغيرات الزمن على غرار حي الدويرات أو ما يعرف بحي “أولاد السلطان” وكذا قصر عزيزة الذي شيده الحاكم العثماني مصطفى باشا لابنته عزيزة وبلدية البليدة وكذا العديد من المساجد والأزقة التي تحمل أسماء شخصيات تركية.
فحي “الدويرات” أو قصبة البليدة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى القرون الوسطى شيده الوافدون على المدينة، حيث يشبه في هندسته كثيرا قصبة الجزائر العاصمة باستثناء بعض الخصوصيات في البناء، يقول المهتم بتاريخ المدينة وذاكرتها الحية يوسف أوراغي، حيث أن بنايات الدويرات مغطاة بالقرميد، بينما بنايات القصبة بالعاصمة تتميز بالسطوح وكذا أبواب بيوتها المقوسة وشكل غرفها المستطيلة التي يتراوح طولها بين الستة والعشرة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار، إلى جانب فناءاتها المعروفة محليا بوسط الدار المزينة بالنافورات وأشجار الليمون وأزهار الياسمين، حسب ما ذكره الذاكرة الحية لولاية البليدة يوسف أوراغي.
غير أنه اليوم لم تبق بنايات هذا الحي التي تميزت كذلك بالطابع العربي الإسلامي التي رسمها مؤسس مدينة البليدة العلامة “سيد أحمد الكبير” بعد دخوله إليها في القرن 16 ميلادي بحكم منبعه الأندلسي على حالتها الأصلية، حيث شهدت في السنوات الأخيرة تدهورا كبيرا بسبب العوامل الطبيعية التي كان لها تأثير أكبر في تصدع بناياتها، ما جعل السكان يرتجلون في ترميمها دون أدنى مراعاة لهندستها الأصلية ولا لمواد البناء المستخدمة، وهو ما يشد الزائر للحي الذي يلاحظ تشييد منازل “فوضوية” من الإسمنت والآجر وتشويه صارخ للمكان.
كما يلاحظ أن بعض السكان قد عمدوا أيضا إلى تغيير جماليات مداخل بناياتهم مستغنين عما كان يميزها من أقواس وزخارف وأبواب خشبية، وآخرون قاموا برفع أسوار بناياتهم ووضع الشبابيك الحديدية لاعتبارات أمنية، فيما فضل آخرون هجر الحي كلية إلى مساكن عصرية خارجه.
ورغم كل الثراء الثقافي لـ “الدويرات” التي تضم اليوم أكثر من 30 ألف نسمة، وفقا لبعض ساكنيها، إلا أنها تخلو من أي مركز ثقافي أو جمعية للتراث تعنى بحفظ ونقل ذاكرة المكان، بل وتغيب حتى اللافتات التي تعرف بالمكان ومعالمه للزائرين، حسب ما لاحظته “واج” عند مختلف مداخلها.
قصر عزيزة أو المنتجع السياحي لعائلة الداي.. يصارع الإهمال
يعد قصر “عزيزة” من المعالم الأثرية ذات الأهمية التاريخية البالغة بالولاية، إذ يرجع تاريخ تشييده إلى فترة التواجد العثماني بالمنطقة وتحديدا إلى بداية القرن الثامن عشر، يقول السيد أوراغي، حيث شيده آنذاك الحاكم العثماني مصطفى باشا لابنته عزيزة.
ويشبه هذا الصرح المتواجد ببلدية بني تامو إلى حد كبير قصر “عزيزة” بالقصبة بالعاصمة، حيث اعتمد في بنائه على أسلوب معماري مميز، وكان بمثابة منتجع سياحي لعائلة الداي وفضاء طبيعي رحب وسط بساتين البرتقال وأشجار النارنج لما كان يتوفر عليه من وسائل الراحة من خدم وملاحق ملحقة بالقصر.
وبالرغم من أنه المعلم الوحيد والقديم الذي صمد بعد زلزال 1825 الذي ضرب الولاية وهدم كل ما عليها من بنايات نظرا لاستخدام نظام مضاد للزلازل يشبه إلى حد بعيد ذلك المعمول به حاليا، إلا أنه يشهد اليوم العديد من التغييرات التي شوهت كثيرا معالم القصر الذي أضحت جدرانه متآكلة وأسقفه مهددة بالسقوط، وذلك بعدما استعمل في بداية الاحتلال الفرنسي كسجن مركزي، حيث استخدم مساجينه آنذاك في تشييد الطرقات وأشغال الري والفلاحة وثكنة عسكرية مع اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، فمقر لإقامة السفاح المظلي ليقارد إلى غاية 1962م.
كما أنه لم يبق من القصر إلا الملامح، حيث يلاحظ الزائر لهذا القصر جليا كيف أن العائلات التي تقطنه حاليا تسببت في إحداث عدة تغييرات بمعالم القصر الذي يتربع على مساحة 560 م2 كإنجاز سور بوسط رواق الطابق الأول ما شوه كليا صورة هذا المعلم، إلى جانب استحداث سلالم لم يكن لها أي وجود بباحة القصر وغلق أبواب مقوسة أخرى لفصل عائلة عن أخرى، تضيف إحدى المقيمات.
كما تعرف بوابته العملاقة بارتفاع 3.25م وعرض 2.90م المصنوعة من خشب الأرز تآكلا في وضعيتها شأنها شأن النوافذ والأسوار الحجرية العريضة والدعامات الكبيرة التي تحمل البناية.
وأوضح القائمون على مديرية الثقافة أن عملية انطلاق أشغال ترميم هذه المنشأة التي استكملت الدراسة الخاصة بها بعد رصد غلاف مالي بقيمة 10 ملايين دج من طرف الوزارة الوصية مرهون حاليا بترحيل العائلات المحتلة للقصر، وهي العملية التي ستسمح، حسبهم، باسترجاعه وتسجيله ضمن قائمة التراث المحلي للولاية.
وتسعى مديرية الثقافة من خلال هذه الخطوة إلى اقتراح هذا المعلم للتصنيف لجعل منه متحفا ثقافيا يحفظ تاريخ وتراث مدينة البليدة.
مقر بلدية البليدة ومسجدا الحنفي وابن سعدون وزنقة الباي.. معالم أخرى ما تزال شامخة
تعد بناية مقر بلدية البليدة التي كانت خلال التواجد العثماني بالمدينة دارا تابعة لابراهيم أغا معلما أثريا هاما ما يزال شامخا ومستعملا من طرف السلطات المحلية التي تتخذ منه مقرا لمصالحها، بالرغم من إنجاز مقر جديد يضم مختلف المصالح المدنية التابعة للبلدية.
ويحظى هذا المعلم الأثري باهتمام كبير لزوار المدينة من داخلها وخارجها نظرا لطبيعته الهندسية المتميزة التي يغلب عليها جليا الطابع العثماني، من خلال الأقواس والأبواب الخشبية وفناء الدار الذي تتوسطه نافورة والنباتات المزينة له في كل جوانبه، وذلك بالرغم من التغيرات التي أقامها المحتل الفرنسي عليها التي جعل منها مقرا للبلدية سنة 1848 بعد تهيئتها على شكل مكاتب وورشات للنجارة وأخرى للفروسية، زد على ذلك عمليات الترميم “الارتجالية” التي تشهدها البناية في كل مرة والتي أساءت إلى المعلم كثيرا بدل العكس على غرار العملية الأخيرة التي قام بها رئيس المجلس الشعبي السابق الذي استغنى عن الأبواب الخشبية للدار، مستبدلا إياها بأبواب من الألمنيوم وكذا الألواح الرخامية الموضوعة أمام النوافذ وغيرها، يقول عمي يوسف متحسرا، شأنها شأن “زنقة الباي” أو شارع الباي الذي كان يضم مختلف المكاتب الإدارية التابعة للباي والذي بقي منه إلا الاسم وذلك بعدما تم تدمير داي الباي الأثرية من طرف أحد الخواص وتشييد على أنقاضها بناية عصرية.
وعلى النقيض ما يزال مسجدا ابن سعدون (لصاحبه بن سعدون ابن محمد بن بابا علي المشيد في أواخر القرن السادس عشر) والحنفي التركي الأثري الذي يحمل اسم الامام المرحوم مصطفى اسطنبولي الذي بني سنة 1750 من طرف العثمانيين لأداء الصلاة وفق المذهب الحنفي ليتحول حاليا إلى المذهب المالكي، شامخين رغم مؤثرات الزمن سيما منها زلزال 1825 الذي هدم جزءا كبيرا من بناياتها.
ويحظى هذان المعلمان اليوم بإقبال كبير من طرف المصلين، كما لا يزالان يؤديان علاوة على وظيفتهما الدينية، دورا هاما على الصعيد الاجتماعي من خلال رص الصفوف وجمع الشمل وزرع المحبة وروح التآزر بين المواطنين.
غير أن عمليات الترميم والتصليح التي لم تتم وفق ما ينبغي حفاظا على طابعها الأصلي، مثلما أشارت إليه حينها الوكالة الوطنية للآثار وحماية المعالم والنصب التاريخية، غيرت من ملامحها كثيرا.