البليدة، اُشتهرت بمدينة الورود وصار ذكرها يرتبط بها، لا تعرف إلا بها، تعددت ألقابها وأصبحت تلقب أيضا بمدينة الأصالة والجمال، إضافة إلى أنها قلعة الثوار وساهمت قبل ذلك في الحركة الوطنية الجزائرية؛ فهي مخزون ثقافي وتاريخي وتعد الآن مركزا اقتصاديا وتجاريا هاما.
تقع جنوب العاصمة الجزائر، وعلى بعد أربعين كيلومترا تقريبا، تستقبلك هذه المدينة التي تحتضنها جبال الشريعة، فتبدو عروسا في موكب زفافها فرِحة وخجولة أيضا، لأن الجبال تلف البلدية من كل جانب، تتربع المدينة وسط الحدائق وكروم البرتقال والزيتون وأشجار اللوز بسهل متيجة الغربي، حيث تستهوي زوارها وتبهرهم بمناظرها الخلابة وطبيعة مرتفعات الشريعة الجميلة وحقول المتيجة وبساتينها الغناء، فلا يخلو بيت من بيوتها من الأزهار والياسمين والقرنفل ومسك الليل التي تزين حدائقها، ولازالت بعض البنايات القديمة بالأحياء شاهدة على الطابع العربي الأندلسي بما توحيه لنا الزخارف الجميلة للأقواس بالنمط الهندسي الرائع الذي كان يزين بعض مداخل مساجدها وحماماتها.
الوريدة قصة أمومة لعمالقة الفن

عند الحديث عن مدينة سيدي الكبير، تتبادر إلى أذهاننا أسماء بعض العمالقة في الطرب والفن التي برزت على الساحة الوطنية والعربية، فنجد على سبيل المثال لا الحصر المطرب الكبير رابح درياسة وأغانيه العذبة، ودحمان بن عاشور رائد الفن الأندلسي، والحاج المحفوظ في الغناء الحوزي، والمطربة سلوى وقسوم ومحمد وجدي وغيرهم، وبميدان التمثيل كلنا نتذكر عميد المسرح البليدي محمد التوري والممثلة القديرة فريدة صابونجي، وفي ميدان الفن التشكيلي لا ننسى الرسامة الكبيرة باية محي الدين ولوحاتها المميزة، كما تزخر البليدة بالطاقات الإبداعية المختلفة في شتى مجالات الفنون، فهي مركز إشعاع ثقافي ورائدة في ترقية وتثمين الثقافة ذات الطبوع العربية والإسلامية. وتتواجد بالساحة الثقافية عدة جمعيات محلية ذات خبرات في مختلف الفنون والمهن والحرف التقليدية، بها نواد فنية وورشات للفنون التشكيلية والرسم والزخرفة الإسلامية وجمعيات للطرب الأندلسي.
البليدة وسر الأبواب السبع

ولمدينة البليدة تاريخ عريق في الذاكرة الوطنية، ويعود تحديدا إلى سنة 1535، تاريخ تأسيس هذه المدينة من طرف الرجل الصالح والمهندس”سيد أحمد الكبير الأندلسي” الذي أتى من الأندلس سنة 1519 يحمل لمسات أهل الأندلس الفنية في البناء والعمران، فلما وجد الطبيعة الخلابة والإمكانيات التي تزخر بها، راعه حال العمران الموجود حينها، فأعطاها صبغة أندلسية في بناء البيوت والحمامات والمحلات والقصور، فتحولت إلى جنة غنّاء لا تضاهيها جمالا إلا قصور غرناطة وإشبيلية في أندلسنا المفقود.
أم عن سر تسميتها البليدة الوريدة، فيعود الفضل في ذلك إلى “سيدي أحمد بن يوسف” الذي جاء لزيارة سيدي الكبير وأعجب بروعة طبيعة المدينة وذهل لما رأى في هذه المدينة من اخضرار يسحر القلوب ويبهج النظر وكذا جداول المياه والأزهار والورود المنتشرة في كل مكان مختلفة الأشكال والألوان تملأ رحب المدينة، فاقترح عليه التسمية الجديدة للمدينة، فبدل أن تعرف بالبليدة، أي البلدة الصغيرة، سميت بالوريدة ومعناه الوردة الصغيرة.
فحملت البليدة هذا الاسم من ذلك الوقت وذاع صيته وتوارثته الأجيال حتى أثناء فترة الاحتلال وزحف عسكر الفرنسيين على هذه المدينة الذي جوبه بمقاومة كانت باسلة، لكن تمكن الفرنسيون من اقتحام أبواب البليدة السبعة.
هذه الأبواب التي تروي بقاياها قصة فريدة لمن يبحث في التاريخ، كما يفعل محدثنا السيد: ”يوسف وراغي” والتي لم يبق منها حاليا إلا الاسم.
فنجد أول هذه الأبواب وأكثرها شهرة، باب الجزائر أو باب الدزاير، وموقعه في الطريق المؤدية للجزائر وكان من الأبواب الأربعة الرئيسية للمدينة سابقا وكان يفتح مع الفجر ويغلق استثناء مع آذان العشاء.
الباب الثاني هو باب الرحبة وسمي كذلك نسبة لساحة سوق الرحبة، كما كان موقعه قريبا من الجبل حتى يتمكن ساكنو المناطق المحاذية للمدينة من اللقاء والتجارة وتبادل السلع، فقد كان -بحسب يوسف رواغي- ملتقى للجبايلية ليقدم كل محصوله الزراعي وتباع في باب الرحبة الذي ما زال سوقا ذائعة الصيت إلى يومنا هذا في البليدة والمتيجة ككل.
باب السبت كان بدوره سوقا قبل أن ينقل إلى سوق الشفة عام 1855 وحوش السمارة وكان من سبت إلى سبت وكان يضم متسوقين من كل الجهات.
ونجد أيضا باب الزاوية وعرف كذلك نسبة لزاوية سيدي محجر ولم يكن هذا بابا رئيسيا وكان يغلق مع المغرب.
أما الباب الخامس فهو باب الخويخة، ويعتقد الكثير أن هذا الباب سمي كذلك نسبة للخوخ، لكن هذا معتقد خطأ لأن المنطقة لا تعرف بالخوخ وإنما بالحمضيات، لكن أصل هذه التسمية تركي ذلك أن كلمة الخويخة تعني الباب الصغير، وفعلا كان هذا الباب يشبه الفتحة وليست بابا لمدينة كما هو متداول عليه.
وكذا الأمر بالنسبة لباب القصبة، فهو بدوره فتحة تؤدي لتراب سيدي يعقوب ومنها إلى الجبل وهو باب من قصب.
وباب القبور سمي كذلك نسبة لمقبرة المسيحيين التي كانت موجودة بمحاذاته، لكن بعد الاحتلال وتحديدا سنة 1869 هدمت أجزاء من هذه الأبواب وغيرت السلطات الاستعمارية منها الكثير، وعلت بعض الأسوار بأربعة أمتار ولم يبق من الأبواب إلا أربعة لم تلبث بدورها أن زالت مع مرور السنوات.
بنت البليدة بين الحداثة والأصالة
المرأة البليدية مع كل ما حققته من تقدم هائل على كافة الأصعدة إلا أنها لم تفتقد إلى ذلك الحس الفني الذي يشحذ الهمة، فتسلقت سلالم الإبداع والأناقة بتلك الأنامل الناعمة التي صنعت من الخيط أبهى فرشة لكل امرأة تعشق فنون التطريز والخياطة مثل الشبيكة، غرزة الحساب، غرزة الياسمينة، غرزة القفي، الفتلة، المجبود، الكروشي … لتتجسد لدى الناظر لوحة فنية غاية في الروعة وإن كانت تدل على شيء إنما تدل على أصالة هذا الموروث وحب الفن والموهبة بحد ذاتها.
أفراح الوريدة لوحة تعبر في عمقها عن الذوق الراقي
اشتهرت المرأة البليدية بمحافظتها على الزي والأصالة الجزائرية، فرغم رواج الملابس العصرية إلا أن محلات المدينة لا تخلو من الملابس التقليدية، فنجد شارع العرائس، الموجود منذ القدم بباب الجزائر، غنيا بمثل هذه الأعمال كالبرنوس الذي كان وما زال عادة ضرورية لإخراج العروس من بيت أهلها. وفي هذا اليوم تقام للعروس (التصديرة) كما يقال بالعامية، والتي عادة ما تكون بقاعة الحفلات، حيث تفتتحها وهي ترتدي (الكاراكو) وهو لباس مطرز بالخيط المذهب بتقنية (الفتلة أو المجبود) ومتزينة بحلي يسمى (خيط الروح) ومحرمة (الفتول) وعليها (حايك المرمى)، وهذا الأخير لباس ترتديه المرأة عادة لتتستر به عند خروجها من البيت، وما زالت لحد الساعة هذه الصورة الجميلة يصادفها أبناء الوريدة في حياتهم اليومية.
ولا تقتصر العروس على شراء الملابس التقليدية، فهي تقصد بكثرة بائعي الحلي والذهب ومن أهم ما تقتنيه نجد كرافاش بولحية، خيط الروح، خلخال، سباعيات، مقياسات…
الحناء كانت ولا زالت زينة المرأة وميزة أفراح مدينة الورود، فهي زينة العروس وفأل الخير عليها توضع على يديها وهي جالسة على وسادة مطرزة، وأفرشة خاصة بهذه القعدة في الوسط وباتجاه القبلة .
تحضر الحناء مع أشياء أخرى مثل ماء الزهر الذي هو رمز المودة واللطف، البيض رمز الخصوبة والغنى، القطعة النقدية الذهبية رمز الثراء. بعد وضع الحناء تدخل يد العروس في قفاز مطرز بالخيط المذهّب وهي تسمع أعذب الأصوات بمزيج من الزغاريد وكلمات ذات معاني جميلة وقيمة.
والحناء حاضرة في معظم المناسبات مصاحبة لعادات أخرى مثل المولد النبوي الشريف، يميز هذا اليوم مظهر الحناء على أيدي الأطفال وهم يداعبون الشموع، دون أن ننسى طبق الرشتة بالخضر والدجاج الذي يقدم كطبق خاص، يميز أمسية هذا الاحتفال. أما في اليوم الموالي تقدم الطمينة والبغرير.
يوم عاشوراء تقص المرأة لبناتها خصلة من الشعر وتزينهن بالكحل والحناء، وتقدم لهن ولكل أفراد العائلة الطبق المشهور عند أبناء المدينة البركوكس .
وكذلك المرأة البليدية ماهرة كذلك في صنع مختلف أصناف الحلويات، فنجدها في حركية كبيرة مع اقتراب أي مناسبة دينية كعيدي الفطر والأضحى .
فهي لا تستغني في المناسبات الدينية والعائلية بتحضير ما جادت عليها قريحتها من حلويات وأطباق مختلفة سواء كانت تقليدية أو عصرية.
فتحرص الأسر البليدية على تحضير بعض الحلويات المشهورة (كالبقلاوة، الصامصة والخشخاش والقريوش، التشاراك، مقروط اللوز..)، وهي حلويات مشهورة تعكف العائلات على تحضيرها كل يوم ذي شأن لإضفاء نكهة خاصة لسهرات الشاي، دون أن تنسى تزيين قعدة المائدة بالفواكه الموسمية كالعنب والخوخ والتفاح الذي تشتهر به عاصمة المتيجة.
ل. ب
