تمرُّ بنا في حياتِنا اليوميَّة والعامَّة أمورٌ عدَّة، منها ما نصرِفُ النَّظر عنْها؛ لأنَّها لا تستحقُّ، وأخرى نلتفِتُ لَها؛ لِما تَحمِل من مهمَّات قد حوتْها. إنَّها الرزية أن يُبتلى أحدُنا بالتَّوافه، فينشغل بها لتُلْهِيه عن عمله الأعظم، أو فكره الأفضل أو إصلاحه الأكْبر، فلا يكاد يُقَدِّر للأمور قدْرَها، أو يعرف للمصائب خطَرَها، فليس له ثَمَّة اهتمام، وقد يُشغل أحدُنا بالتَّوافه بِحُجَّة أنَّها من الضروريات أو من الأمور الواجبِ تدارُكها وتعلُّمها، ولو أنَّنا وضعناها في المقياس السَّليم لاتَّضحت التَّوافه من غيْرِها، ولعَلِمْنا ما الجِدّ من الهزْل، وما الصَّحيح من السقيم؟. وإنَّك لتعجب، بل تحزن وتُساء، حين ترى جمعًا من النَّاس مِمَّن هم حولَك أو تسمع بهم أو ربَّما تُشاهدهم – مِمَّن يُرجى نوالُ عقْلِه أو استِدْرار فِكْره – قد غلبتْ عليْهِم تلك البليَّة، فتجِدُهم لاهثين خَلْفَ سخافاتٍ كانت الدُّنيا خيْرَ عارضٍ لها، وكانت فضائيَّات الفساد خيرَ مُلقية لهم، فاستبلدوا واستبلدوا وكان همّ أحدِهم لا يكاد يتجاوزُ شركَ نعلَيْه، من قِصَرِه وضعْفِه وهوانه، فيسرع ليلتقطَ فُتاتَ ما يَجده من توافِهَ؛ ليلقِيَ به على مَن حوله ليحدِّثَهم به، وكأنَّه شأنٌ عظيم قد عَرَض له، وأراد للنَّاس أن يُدْرِكوا حجْمَ ذلك وأن يُشاركوه. إنَّ الاشتِغال بالتَّوافه يُورثُ صَغار العقْل، وبلادةَ الفهْم، وسطحيَّة التَّفكير، وسذاجة الطَّرح؛ فلا مقياس لديْه كبير، ولا شأن لديْه عظيم، ولا همَّ وهمَّة تدفع طُموحًا، فيصغُر بصِغَر همِّه وعقله، وإقبالِه وشراهتِه على توافهه، فانعدم تَمييزُه، وانعدمت رؤيتُه، وقلَّت بركتُه. ولعلَّ ظاهرةَ الاشتِغال بالتَّوافه هي أبرزُ سِمةٍ غلبتْ على المجتمع، فأضعفت أصالتَه وأبردَتْ حميَّته، فكان كحملٍ وديعٍ لا يقوى من أَمْره على شيء، أمَّة تأنس ذِئْبَها وتأْمن عدوَّها؛ لتُصْبِح خاويةً خاملةً مخدَّرةً، لا تقدر على أن تَرُدَّ شرًّا أو تَجلب خيرًا، إلا ما شاء الله. إنَّ التَّاريخ يخبرنا عن رجالٍ مضَوْا، وأناسٍ رحلوا، كيف أنَّ أفعالهم كانت بعيدةً عن التَّوافه، فضلاً عن الاشتغال بها، فكانتْ حياتُهم جدًّا في جِدٍّ، وهمُّهم علوًّا في علو، فكانوا بحق من العُظماء ومن الذين يخلِّد التَّاريخ ذِكْرَهم، وتُمَجِّدُ الأُمَّة أفعالَهم، وشتَّان بينهم وبين مَنْ هُم في ضِدِّهم، وعلى قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ.
من موقع إسلام ويب