“هنا إذاعة الجزائر الحرة المكافحة. صوت جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني يخاطبكم من قلب الجزائر”، بهذه العبارة بدأت الإذاعة السرية الجزائرية بثها في 16 ديسمبر 1956 لتبدأ الثورة الجزائرية، وهي تعيش عنفوانها الأكبر، تحديا آخر للاستعمار الفرنسي.
بحلول 16 ديسمبر 2022 تكون مرت ستة وستون سنة على تأسيس الإذاعة السرية التي ولدت من رحم الثورة الجزائرية بأمر من قيادة الثورة، وعلى رأسهم المجاهد الراحل عبد الحفيظ بوصوف، الذي كان حينها قائدا للولاية الخامسة، لتكون منبرا يوصل صوت الجزائر المكافحة إلى كل أرجاء العالم وإبراز حق الشعب الجزائري في نيل حريته واستقلاله.
قصة شاحنة حملت صوت الثورة
تحدّى المجاهدون الاستعمار الفرنسي بكل الأساليب العسكرية والسياسية والإعلامية، وكان التحدّي الإعلامي أبرز ساحات المواجهة، إذ اعتبرت الثورة وجود منبر ينقل صوتها إلى الداخل والخارج أمرا مهما.
وشكّلت الإذاعة السرية، التي تأسست في 16 ديسمبر 1956، الوجه الأبرز لذلك التحدّي.
وتأسست الإذاعة السرية بأمر من قيادة الاتصالات في جيش التحرير، وعلى رأسها قائد المخابرات عبد الحفيظ بوصوف، وكان حينها قائدا للولاية الخامسة.
وكانت الإذاعة السرية تبث من مدينة الناظور بالمغرب بادئ الأمر، ثم انتقلت إلى الحدود بين المغرب والجزائر، أما مركز البث فكان شاحنة متحرّكة حتى لا ترصدها مخابرات الاستعمار وعيونها، مع توقيت بثّ لا يتجاوز ساعتين (من الساعة الثامنة مساء إلى العاشرة)، حتى تصعب مهمة رصدها.
وكان الجزائريون يتحلّقون حول المذياع ليستمعوا لصوت الإذاعي عيسى مسعودي وهو يصدح عبر الأثير قائلا “هنا إذاعة الجزائر الحرة المكافحة.. صوت جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني.. يخاطبكم من قلب الجزائر”، وكانت عبارة “من قلب الجزائر” تزعج المستعمر في الوقت الذي يطرب لها الجزائريون.
عيسى مسعودي.. قوة صوت لن تتكرر
كان الإذاعي الجزائري المشهور عيسى مسعودي الصوت الأبرز الذي ظل يخاطب الجزائريين من الإذاعة السرية، وكان صوته الحماسي الثوري ملهما للثوار وللشعب، حتى إن الرئيس الراحل هواري بومدين قال عنه “تحرير الجزائر نصفه لجيش التحرير والنصف الآخر لعيسى مسعودي”، وفق ما ذكره الرئيس الجزائري السابق علي كافي، في مذكراته.
وفي كتابه “ملحمة النضال التونسي الجزائري”، وصف الكاتب التونسي المنصف بن فرج، الحصص التي كان يقدمها مسعودي بأنها “كانت تكتسي أهمية تكمن خاصة في الصوت الحماسي للمذيع الجزائري عيسى مسعودي رحمه الله، الذي يعتبر من أبرز الأصوات الجزائرية المؤثرة في معركة التحرير الجزائري”.
وكانت لمسعودي ورفاقه مهامّ كبيرة لا تقل عن مهام المقاومين في الميدان، فاضطلعوا من خلال عملهم في الإذاعة السرية باطلاع الشعب على أخبار الثورة والمعارك التي تدور وخسائر المستعمر وانتصارات الثوار، وإخبارهم بتحرّكات القيادة السياسية للثورة في الداخل والخارج، وإسماع صوت الجزائر في الخارج والتعريف بقضيتها التحررية.
فشل التشويش

كانت الإذاعة السرية تبث باللغات العربية والأمازيغية والفرنسية، وفيما تكفل بوصوف بحماية الإذاعة أمنيا، تكفّل المناضلون كمال داودي بالقسم الأمازيغي وعيسى مسعودي بالقسم العربي ومصطفى تومي بالقسمين الفرنسي والعامية الجزائرية، وكان البث يتم بأجهزة اتصال أمريكية، عُدّلت لتستعمل في البث الإذاعي.
حاول الفرنسيون قطع الطريق أمام نجاح هذه الإذاعة من خلال التشويش على برامجها، لكن بفضل تقنييها الشباب الذين ابتكروا عدة أساليب، استطاعت مواجهة مخططاتهم كتقريب موجات بث الإذاعة السرية من موجات فرنسا أو أي دولة لها علاقة طيبة معها، وبالتالي كانت كل عملية تشويش تقوم بها فرنسا تكون هي أول المتضررين وبعدها الدول الصديقة لها.
وحسب رئيس القسم الفرنسي في الإذاعة السرية آنذاك مصطفى تومي، استعمل المستعمر أساليب البحث التقني للعثور على شاحنة البث، لكن كل محاولاته فشلت.
إطارات وتقنيّون رفعوا التحدي في 28 أكتوبر 1962

كان الفقيد محمد مهري، يقدّم من إذاعة دمشق برنامج “صوت الجزائر الثائرة”، وهو يحتوي على أخبار عسكرية وتعليق سياسي وتحليل إخباري، توقف هذا البرنامج عن البث سنة 1961 بعد انفصال سوريا عن مصر، إذ أعرب المسؤولون الجدد في سوريا على ضرورة مراقبة نص المادة الإعلامية، فرفضت البعثة الجزائرية وأمرت بوقف الحصة، وابتداء من سنة 1958 تمكّن حامد روابحية الذي كان رئيسا للبعثة الجزائرية ببغداد من تقديم برنامج إذاعي خاص بالثورة الجزائرية بعدما أذن له عبد الكريم قاسم بذلك، وبالموازاة مع ذلك، كان في ليبيا محطتين إذاعيتين هما: محطة طرابلس: كانت تبث حصة ثلاث مرات في الأسبوع، تتضمن أنباء عسكرية وتعليقا سياسيا، ولم تلبث الدولة الجزائرية غداة الاستقلال أن اتخذت التدابير اللازمة من أجل استرجاع مبنى الإذاعة والتلفزيون، لما يمتلكه هذا القطاع الحساس من أهمية في نقل السيادة الجديدة للدولة الجزائرية، وكذا ترسيخ القيم الثقافية الخاصة بالشعب الجزائري، بعيدا عن المسخ الذي استعمله المستعمر طويلاً.
ولد قابلية: الحكومة المؤقتة وفّرت كل وسائل الاتصال للتعريف بالثورة
أكد رئيس جمعية قدماء وزارة التسليح والاتصالات العامة، ولد قابلية، أنه مهما يكن من أمر، فإن التاريخ سيقر في النهاية بفضل عمل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي كانت أداة ذات أهمية كبيرة للنصر النهائي ضد فرنسا الاستعمارية.
كما أشار ولد قابلية إلى أن الحكومة المؤقتة، كانت تتوفر على وسائل اتصال وتواصل مع صحفها وإذاعتها ومصالحها الدبلوماسية وممثليات في عديد العواصم والأمم المتحدة وكذا مصالح اللوجيستيك والأمن، حيث استطاعت إجهاض محاولات المراوغة والتقسيم في الداخل والخارج، سيما حول ثروات الصحراء وعزل فرنسا الاستعمارية في الأمم المتحدة، والفضل يعود إلى تكوين وإعداد ملف المفاوضات حسب أجندتها الخاصة وذلك بكل “ذكاء وصرامة” من أجل التوصل إلى النتيجة الأكثر مطابقة لشروط “الحرية والسيادة”، مضيفا في السياق ذاته، أن الحكومة المؤقتة مرت بصعوبات كبيرة، بما أن مسارها لم يكن “دوما سهلا”، مرجعا سبب ذلك للآثار المدمرة لحرب قام بها الجيش الاستعماري الفرنسي ضد الشعب الجزائري بشكل “همجي”.
من جهته، قال عبد القادر نور المدير العام الأسبق للإذاعة الجزائرية بأن ثورة التحرير كانت بحاجة إلى وسيلة قوية تعبر عنها في تلك الفترة من النضال، وجاءت الإذاعة السرية كأفضل الحلول وأنجع الطرق للصّدح بصوت الحق مدويا من على شاحنة بسيطة على الحدود الجزائرية المغربية، وأضاف أنه بالرغم من كل العراقيل التي كان يفرضها جيش الاستعمار إلا أن الإذاعة السرية تمكنت من نقل كل الأخبار السياسية للثورة والإنجازات العسكرية لجيش التحرير.
أسّسها عبقري الاتصالات واحتضنها المخلصون
أما المجاهد رابح مشحود فقال بأن الإذاعة السرية تأسست بفضل عبقرية المجاهد البطل عبد الحفيظ بوصوف، أحد أبناء ولاية ميلة، كما أنه أشرف على تكوين مجموعة من المجاهدين الذين انضمّوا إلى مشروعه.
وأضاف بأن القدر شاء مرة أخرى أن يكون أول صوت ينبعث عبر أثير الإذاعة السرية لأحد أبناء ولاية ميلة أيضا، وهو المجاهد الشيخ محمد رضا ابن الشيخ الحسين، وأن أول ما بدأ به هو أول آيات من سورة الملك في كتاب الله الحكيم.
حفظ الله أبو بكر: الإذاعة السرية جاءت لترد على الدعاية الفرنسية المشوهة للثورة
في حين أكد الدكتور حفظ الله أبو بكر عميد كلية العلوم الإنسانية بجامعة العربي التبسي لولاية تبسة، أن تأسيس الإذاعة السرية جاء كرد فعل على الدعاية الاستعمارية المغرضة المشوهة للثورة الجزائرية وجنودها وقادتها، وكشف أن المجاهد عبد الحفيظ بوصوف كان له الدور البارز في تأسيسها ورعايتها حتى أصبحت تُبث من المغرب وتونس.
ل. ب