إعلام ثوري في مواجهة مخطط استعماري

الإذاعة السرية الجزائرية… أهم أركان الثورة التحريرية

الإذاعة السرية الجزائرية… أهم أركان الثورة التحريرية

 أدى الإعلام دورا بارزا إبان الثورة التحريرية الجزائرية وكان أحد ركائزها أساسية، وظل كذلك إلى أن استعادت الجزائر سيادتها الوطنية، فالإعلام رافق ثورة التحرير الجزائرية منذ بداية التحضير والإعداد ثم أثناء الثورة وبعدها، بسبب اهتمام قادة الثورة الجزائرية بمسألة الإعلام والاتصال في كل محطات الثورة، على غرار بيان أول نوفمبر.

بحلول 16 ديسمبر 2023 تكون مرت سبعة وستون سنة على تأسيس الإذاعة السرية التي ولدت من رحم الثورة الجزائرية بأمر من قيادة الثورة، وعلى رأسهم المجاهد الراحل عبد الحفيظ بوصوف، الذي كان حينها قائدا للولاية الخامسة، لتكون منبرا يوصل صوت الجزائر المكافحة إلى كل أرجاء العالم وإبراز حق الشعب الجزائري في نيل حريته واستقلاله.

 

الإذاعة السرية كانت الذراع الإعلامية لثورة التحرير المجيدة

قال المجاهد والوزير الأسبق، دحو ولد قابلية، إن الإذاعة السرية كانت الذراع الإعلامية للثورة وصوتها في الخارج. وأوضح السيد ولد قابلية وهو رئيس جمعية قدماء وزارة التسليح والاتصالات العامة (مالغ) أن “العمل العسكري الذي كانت تقوم به جبهة التحرير الوطني ضد الاستعمار، كان بحاجة إلى دعم سياسي يقوم بالإشهار للثورة، ومن هناك تولدت لدى المجاهد، عبد الحفيظ بوصوف، الذي كان قائدا للولاية الخامسة، فكرة تأسيس إذاعة جزائرية سرية تُسمع صوت الشعب الجزائري وتكون الذراع الإعلامية لكفاحه المسلح”.

ولفت في ذات السياق، إلى “الدعم” الذي حظيت به جبهة التحرير الوطني من قبل الدول الشقيقة مثل مصر “صوت العرب” وكذا تونس والمغرب في الحديث عن كفاح الشعب الجزائري وحقه في نيل الحرية والاستقلال، إلا أن ذلك “لم يكن كافيا -على حد تعبيره- إذ عانت الإذاعات العربية من خطوط حمراء لم تستطع تخطيها، وبذلك لم تقم بالدعاية المنشودة لصالح الثورة”.

وأضاف السيد ولد قابلية، أن الإذاعة السرية بدأت سنة 1956 بشاحنة صغيرة يتم اخفاؤها عن أعين المستعمر وأجهزة أمريكية الصنع، كما تم الاستعانة بمجموعة من الشباب المثقفين ممن شاركوا في مظاهرات الطلبة في ماي 1956 وبدعم من قادة الثورة استطاعوا ضمان بث مباشر لمدة ساعتين في اليوم باللغات العربية، الأمازيغية والفرنسية، افتتح بسورة الملك بطلب من المجاهد الراحل بوصوف، قبل أن يصبح البث لاحقا عبر 3 فترات في اليوم.

وكرد فعل على هذا الانجاز- يقول المجاهد- “حاولت فرنسا التشويش على الإذاعة السرية بكل الطرق، كما استعانت بالحركى لمعرفة موقع البث وقصفته بالقنابل، مما تسبب في توقف البث لمدة سنة تقريبا، قبل أن تستأنف نشاطها بأجهزة جديدة وموقع جديد ليصل بثها إلى القاهرة”.

وبالرغم من الظروف الصعبة – يضيف المتحدث – “قدمت الإذاعة السرية مضمونا متنوعا بين البلاغات العسكرية والتعليق السياسي والرد على الادعاءات الاستعمارية، بالإضافة إلى حشد همم الجزائريين ولاحقا الحديث عن زيارات المسؤولين في الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى الخارج”.

وأبرز السيد ولد قابلية “الدور الهام الذي لعبه محررو وتقنيو الإذاعة السرية، التي أصبحت فيما بعد تحت وصاية وزارة الإعلام في الحكومة المؤقتة، في إنجاح مهمتها، فبينما اشتغل التقنيون على تطوير وسائل البث، عمل المحررون على تقديم رسالة إعلامية هادفة تخدم الثورة الجزائرية وتبعث في نفوس الجزائريين الأمل في الحرية”، مشيرا إلى أن من بين الأصوات البارزة آنذاك وحتى بعد الاستقلال، الصوت الحماسي، عيسى مسعودي، إلى جانب آخرين أعطوا كل ما لديهم من أجل الجزائر.

 

شاحنة صغيرة.. وإذاعة بمهام أكبر !

وفقا لشهادات الذين عايشوا الحدث، فإن ظهور الإذاعة السرية كان على متن شاحنة صغيرة متحركة بهدف إبعاد أعين مخابرات الاستعمار والمتعاونين معها وحتى تصعب مهمة رصدها، مع توقيت بثّ لا يتجاوز ساعتين (من الساعة الثامنة مساء إلى العاشرة) ولم يلبث صوت الجزائر المكافحة أن انطلق يدوي من الإذاعات العربية الشقيقة بصوت المرحوم عيسى مسعودي، لتفتح أغلب الإذاعات العربية برنامجا خاصا يدعم الثورة الجزائرية، مثلما فعل صوت العرب من القاهرة، والإذاعة الليبية من طرابلس وبنغازي، والكويت وبغداد، وجدة ودمشق وغيرها.

ومنذ انطلاقتها، دأبت على مخاطبة المستمعين بعبارة “هنا إذاعة الجزائر حرة مكافحة… صوت جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني يخاطبكم من قلب الجزائر” لترفع من حماسة المجاهدين والشعب الجزائري ككل.

وبعد حصول قيادة الثورة على أجهزة اتصال أمريكية الصنع، تم تعديلها لتستعمل في مجال البث الإذاعي كجهاز  BC610 ، وتمكنت الإذاعة السرية من البث يوميا من خلال شاحنة متنقلة من نوع  GMCولمدة ساعتين ابتداء من الثامنة مساء، وكانت تستهل بثها بالنشيد الوطني “قسما”، الذي قام بتلحينه الملحن المصري محمد فوزي في 1957 متبوعا بأخبار عن كل ما يجري في الجزائر مع التركيز على أخبار المعارك والخسائر التي كان يتكبدها العدو على يد الثوار المجاهدين.

 

سلاح مجدي في يد الثوار

استطاعت الإذاعة السرية بفضل العاملين بها والسياسة الحكيمة لقادة الثورة التحريرية أن تكون سلاحا مجديا في يد الثوار تضاهي فعاليته الأسلحة الحربية، فعبر أمواجها الأثيرية ساهمت في تحقيق حلم المجاهدين في الدفاع عن القضية الوطنية وبعث الثقة في نفوس الجزائريين، والرد على الدعاية الفرنسية المغرضة التي مفادها أن الجزائر فرنسية كاشفة حقيقة الاستعمار الفرنسي وهمجيته.

 

التحديات الأولى…

رغم قلة الإمكانيات والتجربة، استطاعت الإذاعة السرية الجزائرية التي كانت متنقلة على ظهر شاحنة في البداية هروبا من عيون المستعمر الفرنسي، أن ترى النور في 16 ديسمبر من العام 1956 في المغرب الشقيق وبالتحديد من مدينة الناظور وكانت تخاطب المستمعين لتقول هنا إذاعة الجزائر الحرة.

 

من جاء بفكرة الإذاعة ومن دعمها؟

كان مؤسس الإذاعة السرية هو عبد الحفيظ بوصوف الذي كان قائد الولاية الخامسة في تلك الفترة التي سبقت مؤتمر الصومام الذي كلفه القائد الشهيد العربي بن مهيدي بإنجاز وتجسيد المشروع على أرض الواقع، وبعد أن تم استحداث سلاح الإشارة جاءت فكرة انشاء الإذاعة المستقلة التابعة للقيادة الثورية، وكانت الدول العربية المساندة للثورة الجزائرية تعلم القائمين عليها بتوقيت برامجها لتبث في نفس التوقيت معها ونذكر منها (تيطوان – الناظور – طنجة – وجدة – الرباط) بالمغرب، و(طرابلس بنغازي – مرسى مطروح) ليبيا، و(القاهرة صوت العرب) بمصر، و (بغداد – دمشق – الخرطوم – الأردن – الكويت – السعودية – بكين – أكرا الغانية – كوناكري الغينية).

 

طريقة تقسيم البرامج وأبرز من كان يذيعها

كانت الإذاعة تبث برامجها في منطقة الريف المغربي الخاضع سابقا للحكم الإسباني وبالضبط في مدينة الناظور وكانت تعمل ساعتين يوميا على الموجات القصيرة.

وكانت تقسم البرامج ساعة كاملة باللغة العربية تذيع من خلالها أخبارا عسكرية، سياسية، تعليقا بالفصحى، تعليقا بالدارجة ونصف ساعة بالأمازيغية ونصف ساعة بالفرنسية.

وكانت تبدأ البث بالنشيد الوطني ثم تليه الأخبار العسكرية التي كانت تصل عن طريق الشبكات الموزعة في المغرب وتونس وعن طريق البرقيات، وفيما بعد يأتي موعد “كلمة اليوم” وهي كلمة افتتاحية سياسية تعلق على بعض الأحداث أو قرارات الأمم المتحدة ومواقف الدول العربية منها، وتتوالى البرامج التاريخية التي ترتبط بفترة زمنية معينة أو تحكي قصة زعيم من الزعماء القدامى للمغرب العربي.

وكانت إذاعة صوت الجزائر الحرة تدوي من الإذاعات العربية الشقيقة بصوت المرحوم عيسى مسعودي (الذي قال عنه الرئيس الراحل هواري بومدين “نصف انتصارات الثورة بفضل جيش التحرير ونصفها الآخر بفضل صوت عيسى مسعودي”.

والتحق الاعلامي عيسى مسعودي بصفوف الثورة سنة 1956 وأشرف على انطلاق برنامج صوت الجزائر العربية من الإذاعة التونسية، ثم ترك مكانه للمرحوم محمد بوزيدي وانتقل إلى الإذاعة السرية لجيش التحرير على الحدود المغربية المعروفة بـ “صوت الجزائر الحرة ” فكان رئيس تحريرها وأشهر مذيعيها، كما عرف عيسى مسعودي بالتفاعل الشديد أثناء التعليق على الأحداث السياسية والعمليات العسكرية، إلى درجة أن قيادة الثورة كانت تعتبر إذاعة صوت الجزائر الحرة الولاية التاريخية السابعة، وفي 12 جويلية 1959 انتقل إلى إذاعة الناظور بالمغرب بعد التحاقه بجهاز اللاسلكي التابع لجيش التحرير الوطني، وكان لنشاطه هذا الأثر البليغ في الرفع من معنويات أعضاء جيش التحرير والشعب الجزائري.

وبالإضافة لعيسى مسعودي، كان يعمل في الإذاعة طاقم من الأسماء البارزة نذكر منهم محمد السوفي – عبد المجيد مزيان – زهير احدادن – الهاشمي تجيني – رضي بن الشيخ الحسين – خالد سفير – مداني حواس – عبد القادر حساني – عبد العزيز شكيري – موسي سدار – على قزاز – عمر تريحي – عبد الكريم حسيني..) وغيرهم من المجاهدين الإعلاميين والقادة العسكريين والعباقرة التقنيين بسلاح الإشارة وصناع القرارات الثورية والمؤسسين للإذاعة السرية (الثلاثي العربي بن مهيدي، عبد الحفيظ بوصوف، ومسعود زقار).

وكان أكبر مشكل يصادف الإذاعة السرية هو التشويش على برامجها من طرف الفرنسيين، واستعملت الإذاعة عدة طرق للتصدي لهم منها تقريب موجاتنا من موجات العدو أو أي دولة لها علاقة بفرنسا، فإذا قامت بالتشويش تكون أول المتضررين وبعدها الدول الصديقة لها، كما كان تقنيو الإذاعة يستعملون الأمواج القصيرة لأن الطويلة كانت تتطلب طاقة كهربائية عالية وأجهزة أكبر.

 

ل. ب