الاحتلال يمارس حربا نفسية من خلال ترويج رواية اغتيال أبو عبيدة

الأيقونة لا تموت.. حيا أو شهيدا.. المصير واحد: المقاومة مستمرة

الأيقونة لا تموت.. حيا أو شهيدا.. المصير واحد: المقاومة مستمرة

منذ اللحظة التي روّج فيها الاحتلال الإسرائيلي خبر استشهاد أبو عبيدة، بدا واضحا أن الأمر لا يتجاوز حدود “الحرب النفسية” التي اعتاد ممارستها كلما عجز عن حسم المعركة ميدانيا.

فرجل واحد، ملثم بالكوفية الحمراء، استطاع أن يزرع “الهلع” في جيش كامل بصوته وبياناته، حتى صار ظهوره حدثا يربك قيادة العدو قبل أن يلهب حماس جماهير المقاومة. واليوم، سواء بقي أبو عبيدة حيا أو نال شرف الشهادة، فإن الرسالة التي جسّدها بوضوح تبقى واحدة: “المقاومة لا تنكسر”، وهي ماضية في طريقها ما دام مشروعها أكبر من الأفراد وأعمق من أن يُهزم برحيل قائد. منذ ظهوره الأول ملثما بالكوفية الحمراء، رسّخ أبو عبيدة صورة استثنائية في المخيال الفلسطيني والعربي. تحوّل إلى “صوت المقاومة” و”ظلّ مقاتليها”، يحمل بلهجته الواثقة رسائل التحدي والوعيد. هذا الحضور الإعلامي الفريد جعل منه أيقونة جماهيرية تُلهم الأمل لدى الشعوب وتثير القلق في أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. مع مرور السنوات، نسجت حوله هالة من الغموض المقصود. فملامحه المخبأة خلف اللثام لم تكن ضعفا بل كانت “قوة رمزية”، رسخت في الوعي الجمعي صورة القائد الذي يتجاوز الجسد الفردي ليصبح لسان حال مشروع بأكمله. لقد تحوّل الملثم إلى هوية بحد ذاتها، بحيث صار ذكر “أبو عبيدة” كافيا ليهزّ وجدان المتابعين في كل مرة يظهر فيها على الشاشة. ولعل سرّ هذه الرمزية يكمن في قدرته على الجمع بين الخطاب العسكري الجاف والبعد العاطفي المؤثر. فهو حين يتحدث عن الأسرى، أو يوجّه رسائله للشعوب العربية، يوظّف لغة مزيجا من الصرامة والثقة، لكنها مغموسة بجرعة وجدانية تشدّ السامع وتثبّت الصورة في الذاكرة. بهذا الأسلوب، أصبح “ضمير المقاومة” و”شاهدها الحي”. ومن هنا نفهم لماذا يولي الاحتلال الإسرائيلي أهمية خاصة لشخصه، إذ يدرك أن أبو عبيدة لم يعد فردا عاديا بل أيقونة تتجاوز الواقع إلى مستوى الأسطورة. إن المساس به أو ترويج خبر استشهاده محاولة لضرب رمز يتغذى منه ملايين المتابعين على الأمل والعزيمة. ولهذا السبب فإن استهدافه إعلاميا أو ميدانيا يدخل ضمن معركة الوعي أكثر مما يدخل ضمن حسابات الحرب التقليدية.

 

الرواية الإسرائيلية بين الدعاية والحرب النفسية

منذ الساعات الأولى لإعلان الاحتلال مزاعمه، بدا واضحا أن الهدف لم يكن “نقلا لحدث عسكري مؤكّد” بقدر ما هو صناعة رواية تخدم خططه في معركة الوعي. فقد تحدّثت القنوات العبرية عن “نجاح بنسبة 95%” في اغتيال أبو عبيدة، وذهب مسؤولون إسرائيليون إلى حد القول إن “لا احتمال لنجاته هذه المرة”، في لغة مشبعة بالتضخيم والتسويق أكثر من كونها سردا للوقائع. هذه اللغة ليست سوى امتداد لسياسةٍ قديمة اعتاد العدو اللجوء إليها كلما أراد تبرير مجازره بحق المدنيين أو رفع معنويات جمهوره المأزوم. فالحرب النفسية بالنسبة لإسرائيل سلاح مواز للطائرات والدبابات. الترويج لاغتيال شخصية بحجم أبو عبيدة يخدم أكثر من غاية: فهو يزرع الشك في صفوف المقاومة، ويحاول إحداث بلبلة في المجتمع الغزّي، ويعطي للجبهة الداخلية الإسرائيلية جرعة أمل كاذبة بأن “المعركة تسير في صالحها”. غير أن التجربة أثبتت أن هذه الأساليب سرعان ما تنقلب ضد أصحابها، إذ غالبا ما تتضح كذب الروايات أو تُكذَّب عمليا بظهور القادة أنفسهم في بيانات لاحقة. الأكثر خطورة أن الاحتلال يسعى من خلال هذه المزاعم إلى تحويل دماء الأبرياء إلى “أضرار جانبية” في نظر الرأي العام العالمي. فكل مجزرة يرتكبها ضد النساء والأطفال في غزة يجد لها غطاء في ادعاء استهداف شخصية قيادية، كما حدث في حي الرمال وغيره. وهكذا يصبح أبو عبيدة في الرواية الإسرائيلية ليس فقط “هدفا عسكريا” بل “شماعة جاهزة” لتبرير قصف الأبراج السكنية وإبادة العائلات. ومع ذلك، يعرف الفلسطينيون جيدا أن هذه الروايات جزء من معركة أكبر عنوانها “الحرب على الوعي”. فحتى إن استشهد أبو عبيدة حقا، فإن استشهاده لا يغيّر حقيقة استمرار المقاومة، وإن بقي حيا فإن حضوره ينقض الرواية الإسرائيلية من أساسها. وفي الحالتين، يظل الاحتلال أسير خطاب يفضح نفسه: خطاب يبالغ، ويبرر، ويحاول تعويض فشله الميداني ببطولات إعلامية لا تصمد أمام اختبار الحقيقة.

 

مشروع يتجاوز القادة والأفراد

ومنذ تأسيسها، عرفت المقاومة الفلسطينية أن قادتها معرضون للاستهداف في كل لحظة. فمن الشيخ أحمد ياسين إلى عبد العزيز الرنتيسي، ومن صلاح شحادة إلى قادة الصف الأول الذين استشهدوا في جولات سابقة، لم يكن رحيل الأفراد يعني نهاية المسيرة، بل كان دافعا لمزيد من الصمود والتجذّر. وفي هذا السياق، يُفهم أن غياب أبو عبيدة –إن صح– لن يوقف عجلة المقاومة، لأن مشروعها بُني على منظومة جماعية لا على شخص واحد. هذا الطابع الجماعي يجعل من المقاومة “جسدا متعدد الرؤوس”، فكلما استُشهد قائد برز آخر ليحمل الراية. لقد أدرك الاحتلال خطورة هذا النمط، إذ لا يجد أمامه شخصية مركزية يمكن باغتيالها شلّ الحركة بأكملها. أبو عبيدة نفسه لطالما شدّد في بياناته على أن “المقاومة متواصلة برجالها جميعا”، ما يؤكد أن حضوره الرمزي لا ينفي وجود بنية متماسكة تقف خلفه. ولعل ما يميز التجربة الفلسطينية، أن دماء القادة تتحول إلى وقود جديد. فكل استشهاد يضاعف حالة الالتفاف الشعبي حول المقاومة، ويعزز حضورها في الوعي العربي والإسلامي. وهنا يصبح استهداف الرموز سلاحا ذا حدين: يُظهر القادة شهداء، لكنه يعيد في الوقت نفسه إحياء قضاياهم ويضاعف الإصرار على مواصلة الطريق. من هنا، لا يمكن النظر إلى شخصية أبو عبيدة بمعزل عن هذا السياق. فهو وإن كان رمزا كبيرا، إلا أنه جزء من مشروع أوسع يتجاوز الأفراد، مشروع أثبت عبر العقود أن قوته الحقيقية تكمن في كونه “أمة من المقاومين” لا مجرد حركة محدودة. لذلك، فإن أي محاولة لاغتياله أو ترويج خبر استشهاده، لن تُحدث الفراغ الذي يتوهمه الاحتلال، بل قد تكون سببا في تجذير الفكرة أكثر في القلوب والعقول.

 

“إما النصر أو الشهادة”: الشعار الذي يلخص المسيرة

وحين رفع أبو عبيدة شعاره الشهير “إما النصر أو الشهادة”، كان اختزالا لفلسفة المقاومة بأكملها. هذا الشعار تحوّل إلى بوصلة معنوية لمقاتلي القسام وللجماهير التي تتابع بياناته، إذ لخص معادلة واضحة: إمّا الانتصار على الاحتلال وإما نيل شرف الشهادة في الطريق إليه. في كل ظهور إعلامي له، كان أبو عبيدة يستحضر هذه الثنائية ليذكّر أن المقاومة لا تعرف منطقة وسطى. فهو حين يتحدث عن الأسرى، أو يهدد بالرد على المجازر، أو يتوعد قادة الاحتلال، يضع دائما النصر أو الشهادة كخيارين وحيدين. بذلك صار الشعار برنامجا عمليا يوجّه سلوك المقاتلين ويعطي معنى لتضحياتهم. القيمة العميقة لهذا الشعار تكمن في أنه يفرغ حرب العدو النفسية من مضمونها. فحين يروّج الاحتلال لاستشهاد قائد مثل أبو عبيدة، فإن ذلك – وفق منطق الشعار – لا يعني الهزيمة، بل تحقيق إحدى غايتين ساميتين. بهذا يصبح الاستشهاد في ذاته شكلا من أشكال الانتصار، ويغدو أي خبر من هذا النوع غير قادر على زعزعة المعنويات، بل قد يزيدها صلابة. ولعل ما يفسر استمرار حضور أبو عبيدة كرمز حتى بعد شائعات استشهاده هو أن شعاره أرسى معادلة لا يمكن لإسرائيل كسرها: إن بقي حيّا فهو صوت المقاومة الحاضر، وإن استشهد فقد تحوّل إلى رمز خالد يجسد خيار الشهادة. وفي الحالتين، تظل المقاومة ماضية في طريقها، لا تتوقف عند حياة شخص ولا عند رحيله.

 

حيا أو شهيدا.. الفكرة باقية

حتى هذه اللحظة، لم يصدر أي تأكيد رسمي حول استشهاد أبو عبيدة، ما يجعل الرواية الإسرائيلية مجرد “مزاعم” أقرب إلى سيناريو مكرر في سجل الاحتلال. فإسرائيل اعتادت على إطلاق شائعات عن اغتيال قادة المقاومة، كوسيلة من وسائل الحرب النفسية التي تهدف إلى إرباك الشارع الفلسطيني وبث الشكوك في صفوف المقاومة. لكن تجربة العقود الماضية أثبتت أن هذه الأساليب، مهما تضخّمت، لم تحقق هدفها في كسر الإرادة أو إسكات صوت المقاومة. هذه الحرب النفسية هي إحدى أدوات الاحتلال الثابتة في كل جولة من جولات العدوان. فكلما تعثر ميدانيا أو عجز عن تحقيق اختراق حقيقي، لجأ إلى “الانتصارات الإعلامية” عبر تسويق اغتيالات أو تضخيم إنجازات وهمية. غير أن الفلسطينيين اعتادوا على تفكيك هذه الروايات، وأصبحوا أكثر وعيا بأن العدو يستخدم الإعلام سلاحا لا يقل خطورة عن الصواريخ والدبابات. وهنا يظهر مجددا الدور الرمزي لأبو عبيدة، الذي شكّل صوته حاجزا نفسيا أربك إسرائيل أكثر مما أربكتها صواريخ غزة. إن مجمل الضجيج الذي أثارته إسرائيل حول استهدافه لا يعكس إلا “حجم الهلع” الذي مارسه رجل واحد بصوته الملثم على جيش كامل. فقد صار ظهوره الإعلامي حدثا يترقبه الإسرائيليون قبل الفلسطينيين، يثير فيهم الخوف والارتباك، تماما كما يزرع في جمهور المقاومة الأمل والثقة. إن العدو الذي يحاول أن يقنع نفسه والعالم بإنهاء رمز إعلامي هو ذاته الذي يعترف، من حيث لا يدري، بتأثيره العميق على معادلة الصراع. ومع ذلك، فإن السؤال الحقيقي لا يتعلق بمصير أبو عبيدة كفرد بقدر ما يتعلق بما يمثله من فكرة. فإن بقي حيّا فهو شاهد على فشل الرواية الإسرائيلية، وإن استشهد حقا فقد جسّد الشعار الذي ردده مرارا: “إما النصر أو الشهادة”. وفي كلتا الحالتين، تبقى المقاومة مستمرة، تواصل مسيرتها غير عابئة بخسارة الأفراد، لأن مشروعها أكبر من الأشخاص، وأقوى من أن يُهزم برحيل قائد أو بقاء آخر.