-
نموّ متواصل خارج المحروقات يعزز متانة الاقتصاد الوطني
-
سياسة نقدية مرنة توازن بين ضبط التضخم وتحفيز الاستثمار
-
إصلاحات رئاسية تعيد الثقة وترسخ السيادة المالية
في خضمّ أجواء اقتصادية عالمية مضطربة، تميّزت فيها معظم الأسواق بالتقلّب وغياب الاستقرار، برز الاقتصاد الجزائري كمثال على قدرة الدول الصاعدة على امتصاص الصدمات وتحويل الأزمات إلى فرص تكيّف ونموّ، ففي تصريحات أدلى بها محافظ بنك الجزائر صلاح الدين طالب من واشنطن، أكّد أن الجزائر تُظهر “مرونة قوية” بفضل سياسة نقدية متزنة وإصلاحات مالية متراكمة سمحت للنظام البنكي بتمويل الاقتصاد الفعلي وتخفيف آثار التضخم.
هذه المؤشرات الإيجابية – من نموّ متواصل خارج قطاع المحروقات، واحتياطات صرف مريحة، وديون خارجية شبه منعدمة – تعكس في جوهرها مسارا إصلاحيا تقوده الدولة منذ خمس سنوات لبناء اقتصاد منتج ومستقل، حيث تتقاطع رؤية رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون حول “التحرّر المالي” مع الإجراءات التقنية التي تبناها البنك المركزي للحفاظ على توازن السوق وتدعيم الثقة في الدينار الوطني.
نمو متواصل خارج المحروقات يعزز صلابة الاقتصاد
تُظهر المؤشرات الأخيرة التي كشف عنها محافظ بنك الجزائر أن الاقتصاد الوطني يسير بثبات نحو تنويع حقيقي لمصادر دخله، بعد سنوات من الارتهان لعائدات النفط والغاز. فالنمو المسجل خارج قطاع المحروقات أصبح توجّها اقتصاديا مدعوما بسياسات هيكلية تستهدف تشجيع الإنتاج المحلي وتشبيب النسيج الصناعي والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. هذا التحول يعكس – في جوهره – انتقال الجزائر من اقتصاد يعتمد على تصدير المواد الخام إلى اقتصاد منتج للقيمة المضافة. البيانات التي رُفعت خلال الاجتماعات المالية بواشنطن تؤكد أن نسبة النمو في القطاعات غير النفطية حافظت على وتيرة تصاعدية منذ 2023، وهو ما أتاح توازنا في الميزان التجاري دون المساس باحتياطات الصرف التي تجاوزت مستوياتها 70 مليار دولار. هذه النتائج جاءت ثمرة قرارات سياسية واقتصادية متكاملة تبنّتها الحكومة، أبرزها تسهيل مناخ الاستثمار وتبسيط الإجراءات الإدارية، إلى جانب مرافقة المشاريع المنتجة عبر البنوك الوطنية. ويرى مراقبون، أن هذه الديناميكية هي حصيلة رؤية رئاسية واضحة أعلن عنها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون منذ بداية عهدته الأولى، حين دعا إلى بناء “اقتصاد حقيقي قائم على العمل والإنتاج لا على الريع”. وتؤكد الأرقام اليوم أن هذا المسار بدأ يعطي ثماره تدريجيا، حيث ارتفعت مساهمة القطاعات الصناعية والفلاحية والخدماتية في الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ. وبينما تواجه العديد من الاقتصادات الناشئة تحديات في التكيّف مع التحولات العالمية، استطاعت الجزائر أن تضع لنفسها قاعدة إنتاجية صلبة، تجعلها أقل عرضة لتقلبات أسواق الطاقة، وأكثر قدرة على تحقيق توازنٍ بين الإصلاح المالي والنمو الاقتصادي، هذه المعادلة باتت تشكل ركيزة المرحلة الجديدة في بناء اقتصاد وطنيّ مرن ومستدام.
سياسة نقدية متزنة تحافظ على الاستقرار وتدعم الثقة
وإذا كان تنويع الاقتصاد قد شكّل الأساس في تحقيق المرونة، فإن السياسة النقدية لبنك الجزائر كانت الذراع التنفيذية التي حافظت على هذا التوازن في أصعب الظروف، فقد واجهت البلاد، مثل بقية دول العالم، سلسلة من الصدمات الاقتصادية منذ جائحة كوفيد-19 إلى اضطرابات الأسواق الطاقوية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، غير أن البنك المركزي تبنّى مقاربة حذرة ومرنة في الوقت ذاته، سمحت بتجنب التضخم المفرط والحفاظ على استقرار النظام البنكي. القرارات التي اتُخذت، مثل خفض سعر الفائدة الرئيسي وتخفيف بعض المعايير الاحترازية خلال الأزمة، مكنت المؤسسات من الحصول على تمويل إضافي وضمان استمرار النشاط الاقتصادي. هذا النهج المتدرج في إدارة السياسة النقدية يعكس تحولا عميقا في فلسفة التسيير المالي، يقوم على المرونة بدل الانكماش، وعلى دعم الاقتصاد الفعلي بدل الاكتفاء بالرقابة البنكية. فقد أشار محافظ بنك الجزائر إلى أن أكثر من 70 بالمائة من التضخم الذي شهدته البلاد في فترة ما بعد الجائحة كان “تضخما مستوردا”، أي ناتجا عن ارتفاع تكاليف الواردات، وهو ما جعل المؤسسة النقدية تتجه نحو تقوية الدينار الجزائري لامتصاص أثر الأسعار الخارجية بدل اللجوء إلى إجراءات قاسية على السوق المحلية. ويُلاحظ أن هذه المقاربة تتقاطع مع توجيهات رئيس الجمهورية، الذي شدد مرارا على ضرورة الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن دون الإضرار بالاستقرار المالي، مؤكدا أن “قيمة العملة الوطنية هي عنوان السيادة الاقتصادية”. من هنا جاءت السياسة النقدية الحالية كترجمة عملية لهذه الرؤية، حيث ركّز البنك المركزي على دعم الثقة في العملة المحلية وتحسين تسيير السيولة داخل البنوك. وبين ضبط التضخم وتحفيز الاستثمار، نجح بنك الجزائر في تحقيق معادلة صعبة بين متطلبات النمو واستقرار الأسعار، مما منح الاقتصاد الوطني مساحة أمان تسمح له بمواصلة الإصلاحات البنيوية دون ضغوط تضخمية. وهكذا، تكمل السياسة النقدية المسار الإصلاحي العام، وتمنح الدينار الجزائري دورا متجددا كرمز للثقة في الاقتصاد الوطني.
الإصلاحات الرئاسية تعيد هيكلة الاقتصاد
وفي امتداد لهذا المسار النقدي المتزن، جاءت الإصلاحات التي أطلقها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لتشكل الإطار السياسي العام الذي أعاد رسم توجهات الاقتصاد الوطني نحو مزيد من الفعالية والسيادة. فمنذ عام 2020، وضعت الحكومة خريطة طريق تقوم على إصلاح المنظومة البنكية والجبائية وتشجيع الاستثمار المنتج وتقليص التبعية للخارج، وهي رؤية شاملة تهدف إلى بناء اقتصاد متحرر من الديون وموجه نحو خلق الثروة. وقد تجسدت هذه الرؤية من خلال مراجعة قوانين الاستثمار، واستحداث آليات جديدة لمرافقة المستثمرين المحليين، وفتح السوق أمام رؤوس أموال جزائرية وأجنبية بشروط أكثر شفافية. اللافت في هذه الإصلاحات أنها لا تقتصر على الجانب المالي فحسب، بل تمتد إلى فلسفة اقتصادية جديدة تعتبر القرار الاقتصادي امتدادا للسيادة الوطنية. فالرئيس تبون أكد في أكثر من مناسبة أن “الجزائر لن تستدين من الخارج مهما كان الثمن”، في إشارةٍ واضحة إلى الرغبة في الحفاظ على الاستقلال المالي للدولة، وهي سياسة بدأت تعطي ثمارها مع تسجيل فائض مريح في ميزان المدفوعات وتحسن مستوى احتياطات الصرف. هذه النتائج لم تمر دون ملاحظة في الأوساط الدولية، حيث أشاد صندوق النقد والبنك الدوليان باستقرار مؤشرات الاقتصاد الجزائري مقارنة بالعديد من الاقتصادات المماثلة. وتظهر تصريحات محافظ بنك الجزائر الأخيرة، أن هذه الإصلاحات لم تبق حبرا على ورق، وتحولت إلى واقع ملموس في الأداء الاقتصادي، خاصة مع دخول قطاعات جديدة حيز الإنتاج مثل الصناعة التحويلية، والفلاحة ذات القيمة المضافة، والمناجم. كما أسهمت الإجراءات الحكومية في محاربة الاقتصاد الموازي وتحسين تحصيل الجباية، ما وفر موارد إضافية للدولة دون اللجوء إلى ضرائب جديدة أو تمويل تضخمي. هذا التوجه المتكامل بين الرئاسة والمؤسسات المالية يعكس إرادة سياسية واضحة لإعادة بناء النموذج الاقتصادي الجزائري على أسس متينة، تقوم على الإنتاج بدل الريع، والاستقلالية بدل التبعية، والفعالية بدل البيروقراطية. ومع كل مؤشر إيجابي جديد، تتعزز قناعة المراقبين بأن الجزائر تتقدم بخطى ثابتة نحو اقتصاد أكثر توازنا واستدامة.
مكافحة تبييض الأموال وتعزيز الشفافية المالية.. ركيزة لاقتصاد آمن ومستقر
وبينما تتقدم الإصلاحات الاقتصادية في مختلف الجبهات، برزت مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب كأحد المحاور الأساسية لترسيخ الثقة في المنظومة المالية الجزائرية. فقد أكد محافظ بنك الجزائر أن التقدم المسجل في هذا المجال بات محط إشادة من الهيئات الدولية المختصة، بعد أن نجحت الجزائر في تطوير آليات المراقبة والتتبع المالي وتكييفها مع المعايير العالمية. هذا التطور يمثل خطوة استراتيجية لتأمين النظام البنكي من مخاطر المعاملات غير المشروعة، وضمان شفافية التدفقات المالية في مرحلة تشهد انفتاحا متزايدا على الاستثمار الداخلي والخارجي. ويأتي هذا النجاح ثمرة مسار طويل من الإصلاحات القانونية والتنظيمية، من أبرزها تحديث القوانين الخاصة بمراقبة حركة الأموال وتفعيل التنسيق بين بنك الجزائر وهيئة الوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فضلا عن رقمنة عدد من العمليات المصرفية لتعزيز الشفافية وتقليص الهامش أمام الاقتصاد الموازي. هذه الخطوات ساعدت في تحسين صورة الجزائر لدى المؤسسات المالية الدولية، كما عززت ثقة المتعاملين الاقتصاديين المحليين والأجانب في بيئة الأعمال الوطنية. ويرى خبراء أن هذا التقدم في الحوكمة المالية يُترجم أحد أهم أهداف الرؤية الاقتصادية للرئيس عبد المجيد تبون، المتمثلة في “بناء اقتصاد نظيف وخال من الممارسات غير الشرعية”، وهو ما جعل الدولة تُشدّد على ربط الرقمنة بالإصلاح المالي، في إطار سعيها لتأمين حركة الأموال ومراقبة مصادرها ووجهتها بدقة. ومع استمرار تحديث المنظومة البنكية، يتجه القطاع المالي نحو مزيد من الانفتاح المدروس، دون التفريط في الرقابة والشفافية. وهكذا، تشكّل مكافحة تبييض الأموال وإرساء الشفافية المالية حجر الزاوية في بناء اقتصاد آمن ومستدام، يسير بخطى متوازنة بين الإصلاح والانضباط. وبقدر ما تُظهر الأرقام مؤشرات إيجابية على صلابة الاقتصاد الجزائري، فإن نجاحه في ضبط منظومته المالية يبعث برسالة واضحة إلى الداخل والخارج: أن الجزائر ماضية بثقة نحو ترسيخ نموذج اقتصادي متوازن، قائم على الانضباط، السيادة، والشفافية. وتُظهر مجمل المؤشرات والتصريحات الرسمية أن الاقتصاد الجزائري دخل مرحلة جديدة من النضج والاستقرار، بعد سنوات من الإصلاحات المتراكمة والسياسات المالية المتحكمة في وتيرتها. فمرونته أمام الأزمات العالمية نتيجة رؤية اقتصادية متكاملة جمعت بين إصلاحات هيكلية في البنوك والمؤسسات، وسياسات مالية متحفظة تراعي التوازن بين متطلبات النمو والحفاظ على الاستقرار النقدي. هذا التمازج بين السياسة النقدية الهادئة والإرادة السياسية للإصلاح جعل الجزائر تحافظ على ثقة مؤسساتها المالية في الداخل، وتكسب احترام شركائها الاقتصاديين في الخارج. ومع استمرار التحولات الاقتصادية العالمية، تبدو الجزائر اليوم في موقع يسمح لها بتثبيت مكانتها كاقتصاد صاعد في المنطقة، بفضل احتياطاتها المريحة، وتراجع مديونيتها الخارجية إلى مستويات شبه منعدمة، وتحسن مؤشرات التضخم والنمو خارج قطاع المحروقات، غير أن التحدي المقبل يتمثل في ضمان استدامة هذه المرونة عبر تنويع أعمق لمصادر الدخل، ومواصلة تحديث المنظومة المصرفية والجبائية، بما يسمح بتعزيز تمويل المشاريع المنتجة وتوجيه الادخار نحو الاستثمار الحقيقي. وبينما تتقاطع إشادة المؤسسات الدولية مع التصريحات الوطنية حول صلابة الاقتصاد، يبقى رهان الجزائر الأكبر هو تحويل هذه المؤشرات إلى مسار تنموي طويل المدى، ينعكس مباشرة على تحسين معيشة المواطن وتكريس السيادة المالية الكاملة. فاقتصاد وطنيّ مرن، قائم على الإنتاج والشفافية والرقمنة، واقع يتشكّل تدريجيا على أسس متينة، تعيد للجزائر موقعها كقوة اقتصادية إقليمية وفاعلٍ متوازن في محيط دولي مضطرب.
م. ع