المونودرام الليبي "زيارة ذات مساء"

اعتراف على عتبة الغياب

اعتراف على عتبة الغياب

احتضنت دار الثقافة هواري بومدين بسطيف، ضمن فعاليات الأيام العربية للمسرح، العرض المشترك الليبي ـ الجزائري “زيارة ذات مساء”، وهو مونودراما من إنتاج الجمعية الليبية “دار البيضاء”، أخرجها الفنان الليبي أكرم عبد السميع وأدتها الممثلة الجزائرية فضيلة العموري.

العمل جاء ثمرة تجربة غير تقليدية بدأت عبر وسائط التواصل الاجتماعي قبل أن تتجسد لأول مرة على الخشبة، ليحمل معه خصوصية التعاون العابر للحدود. وتدور الفكرة حول امرأة تعود، بعد عقد من الغياب، لتقف أمام قبر زوجها الغائب محمّلة بخلافات قديمة وجراح لم تلتئم، تدخل البطلة في مواجهة صامتة مع الموت، محاولة أن تفك عقدة الذاكرة وتطلب الصفح وتواجه ذاتها بما لم تستطع قوله في حياته. هنا يتحول القبر إلى مساحة اعتراف إنساني مفتوح، تتقاطع فيه ثنائية الفقد والمصالحة بوصفهما لبّ التجربة الإنسانية. النص كُتب بلغة اعترافية أقرب إلى البوح المسرحي، حيث يتأرجح بين الحميمي الفردي والإنساني العام، لكن ترجمته إلى الخشبة لم تبلغ تماماً مستوى شحنة الفكرة. فقد اتسم الأداء بإيقاع متذبذب افتقر أحياناً إلى التوتر الدرامي الضروري لبناء المونودراما، ما جعل بعض المقاطع تفقد تأثيرها العاطفي. كذلك جاء الإخراج مقتصداً إلى حد التبسيط، مكتفياً بفضاء ركحي يحاكي المقبرة بشكل مباشر، من دون أن يفتح مساحات رمزية أو جمالية جديدة. ورغم ذلك، فإن التجربة تحمل فرادة خاصة في كونها وُلدت من تمرين عن بُعد: المخرج في ليبيا والممثلة في الجزائر، حيث تبادل الطرفان النصوص والتسجيلات عبر تطبيقات التواصل، ليُبنى العرض بالتدريج حتى لحظة لقائهما الأول في مهرجان المونودراما بالوادي عام 2024، حيث حاز العمل على جائزة. فضيلة العموري، التي بدأت مسارها من المسرح الجامعي قبل أن تنتقل إلى الاحتراف وتشارك في أعمال بارزة منذ مطلع الألفية، حملت على عاتقها مسؤولية تجسيد النص عبر حضور منفرد على الخشبة، بينما حاول المخرج أن يوازن بين بساطة السينوغرافيا وثقل الموضوع.

“زيارة ذات مساء” في نسخته الجديدة قلبت أدوار العمل الأصلي الذي سبق أن قدّمه المخرج نفسه، حيث كان هو من جسّد شخصية رجل يزور قبر زوجته. هذه المرة، أُسنِدت المهمة لامرأة تقف على قبر زوجها، في إعادة صياغة للعلاقة بين الحاضر والغائب، ولإشكالية الكلام المؤجل الذي لا يقال إلا بعد فوات الأوان. العمل، رغم بعض النقائص الفنية، إلا أنه يترك انطباعاً بكونه بحثاً عن لحظة خلاص عبر المسرح: كيف يمكن للكلمة أن تحرر الذاكرة، وكيف يصبح المسرح فضاءً للمصالحة المؤجلة، يفتح للحياة والموت معاً حواراً آخر لم يكتمل في زمنه.

حاء/ع