مسندا بمرفقه إلى الطاولة جاذبا حلمة أذنه اليسرى يداعبها باستمرار.. بعدما استنزف كل الكلام الذي بجعبته، امتدت يده اليمنى لفنجان القهوة الذي أظنه صار باردا.
لا أدري ما الذي جعلني أعشق لهجته الشامية وأُدمن الإصغاء لكلامه دون أن يسمع حرفا واحدا مني.. كانت عباراته تصلني بطعم العسل الحلبي وأشتّم فيها ياسمين الشام.
أردت المزيد.. فقلت بليونة: تشتاق لسورية؟
أجابني بصوت كلثوميّ مبحوح: آااه من الشوق.. كيف لا أشتاق.
فهناك وطني وأهلي.. أصدقائي.. أحبابي وجيراني.. هناك قلبي وعيوني.. كل مني هناك.. دفاتري القديمة وحيطان مدرستي.. طفولتي.. حنيني.. أحلامي.. أشيائي وأشلائي.
نعم أشتاق لكل هذا.. لكنّني اليوم أجده بعيدا تائها، ولا أظن الزمان سيعيده.
علمت حينها أنني حركت ما لا يجب الخوض فيه..
فقلت محاولا خلق جو من الأمل والتفاؤل: لا عليك، سيعود كل شيء لأصله.
هو غياب مؤقت فقط.
قال وقد دمعت عيناه: لكن هؤلاء الغائبون ضربة موجعة لا تكف عن النزيف..
أدركت مدى حجم الاشتياق الذي يعتريه.. وأنه يفوق فكرة الزمن بكثير..
قلت وأنا أربت على كتفه وأهمُّ بالوقوف وقد ركزّت عيناي بعينيه:
تأكد يا صديقي.. سيزهر الياسمين وستشرق شمس الشام ولو بعد حين.
ابتسم حينها وبكل رضا، قائلا: هذا يوم المنى. ثم غادرنا المكان، وأنا كلي إصغاء لحديثه المعسول.. لكن هذه المرة بعيدا عن الحزن والشجن.