-
1473 معتقلا.. والقاصـرون في الصفوف الأولى للاحتجاج
-
يوم حقوق الإنسان يتحوّل إلى يوم اختبار للمخزن
تعود الاحتجاجات في المغرب يوم 10 ديسمبر الجاري، لتكشف أن الأزمة الاجتماعية التي انفجرت قبل أشهر لم تُطفأ، بل جرى تأجيلها فقط تحت ضغط الاعتقالات والقمع.
فبينما يستعد المخزن للاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان، يعود الشارع ليفرض نفسه كمرآة للواقع: آلاف المعتقلين بينهم مئات القُصر، مطالب اجتماعية بسيطة تحوّلت إلى صرخة جماعية، واحتقان يتجدد كلما تجاهلت السلطة جوهر المشكلة. إنها لحظة سياسية حاسمة تُظهر أن الاستقرار الذي يتحدث عنه الخطاب الرسمي المغربي هشّ، وأن الشباب، رغم كل القيود، ما يزالون قادرين على كسر الصمت وإعادة طرح السؤال الذي تخشاه الدولة: من يملك الشرعية في الشارع؟
لم تكن دعوة الحركة الشبابية إلى التظاهر غدا 10 ديسمبر حدثا عاديا، بل عودة مُحمّلة بدلالات سياسية واجتماعية تكشف حجم الاحتقان الذي حاولت السلطات المغربية إخفاءه عبر موجة الاعتقالات. فخروج الشباب مجددا، بعد أسابيع من المواجهات والقمع، يعني أن جذور الأزمة أعمق مما تُظهره بيانات المخزن، وأن المطالب التي أُطلقت في سبتمبر ما تزال معلّقة دون معالجة حقيقية. إن عودة الشارع في هذا التوقيت بالذات، وبالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تحمل تحدّيا لخطاب الدولة وتُعيد إلى الواجهة قضية الشرعية الاجتماعية التي يُراد طمسها. وتُبرز العودة أيضا مدى اتساع قاعدة الغضب، بعدما سجّل النشطاء 1473 معتقلا بينهم 330 قاصرا، ما يجعل الحركة الشبابية تتعامل اليوم مع ملف إنساني وحقوقي أكثر تعقيدا من مجرد احتجاجات اجتماعية. فالأرقام تكشف أن المقاربة الأمنية لم تُخمد الشارع بل أعادت إنتاج الأزمة بشكل أشدّ حدّة، إذ تحوّل ملف المعتقلين إلى رمز لانسداد سياسي يصعب تجاهله. هذه المعطيات منحت الحركة زخما جديدا، ودفعت عائلات المعتقلين إلى الانضمام إلى المشهد الاحتجاجي، ما يعني أن الاحتجاج لم يعد نخبويا أو محدودا. وتأتي هذه العودة في ظرف سياسي داخلي تبحث فيه السلطة المغربية عن تسويق صورة “النموذج المستقر” أمام الخارج، مستندة إلى الدبلوماسية الاقتصادية والانفتاح الدولي. غير أن مشاهد السجون المكتظة والقصر الموقوفين تفضح التناقض الصارخ بين الصورة المُصدّرة والخلفية الواقعية التي يعيشها المواطن المغربي. وهنا يكمن البعد السياسي للمشهد: فاحتجاجات 10 ديسمبر ليست مجرد حركة مطلبية، بل ردّ مباشر على خطاب رسمي يروّج لإنجازات وهمية لا تعكس حقيقة الشارع. كما أن تزامن الاحتجاج مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان يمنح الحركة الشبابية فرصة لإحراج السلطة أمام العالم، عبر إبراز الفجوة بين التوقيعات التي صادقت عليها الرباط على المستوى الدولي، والممارسات اليومية داخل المحاكم والسجون. هذه المفارقة تجعل من 10 ديسمبر محطة اختبار حقيقي للمخزن: فإما أن يواجه الاحتجاج موجة جديدة من الاعتقالات، وإما أن يعترف، ولو ضمنيا، بأن التعامل الأمني لم يعد قادرا على إسكات الأسئلة الكبرى التي يطرحها الشباب حول العدالة والكرامة والحق في مستقبل أفضل.
بين صور “الاستقرار المصدَّر” والواقع الاجتماعي الملتهب
لطالما روّجت الرباط لصورة بلد مستقرّ سياسيا وماليا، يُقدَّم كنموذج استثنائي داخل المنطقة، لكن عودة الاحتجاجات تكشف هشاشة هذا الخطاب حين يُختبر على الأرض. فالدولة التي تُعلن مشاريع عملاقة وتتباهى بقدرات اقتصادية صاعدة، تجد نفسها عاجزة عن توفير مستشفى لائق أو مدرسة تحفظ كرامة التلاميذ—وهي مطالب بسيطة كانت الشرارة الأولى التي أعادت الشارع إلى الحركة. هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الاجتماعي خلق فجوة ثقة واسعة، فالمواطن الذي يسمع حديثا عن “الإقلاع الاقتصادي” لا يجد أثرا له في حياته اليومية، ما يجعل كل محاولة لتلميع الصورة الخارجية تبدو مفصولة تماما عن الواقع الداخلي. وتضاعف هذه الفجوة عندما تتحوّل مؤشرات الفقر والبطالة وغلاء الأسعار إلى قضايا مركزية تؤجّج الغضب الشعبي، بينما تصر السلطة على رواية “الاستقرار” وكأنها شعار ملزم للجميع. فالاستقرار الحقيقي لا يصنعه القمع، بل السياسات التي تمنح المواطنين أملا في تحسين أوضاعهم. أما حين يصبح الشارع المساحة الوحيدة للتعبير، فإنّ عودة الاحتجاجات تعني أن بوصلة الثقة بين الشعب والنظام فقدت اتجاهها، وأن المقاربة الأمنية التي لجأ إليها المخزن لم تعد قادرة على احتواء أزمة بهذا العمق. وتكتسب الاحتجاجات زخما إضافيا لأن الحركة الشبابية تمثّل جيلا جديدا لا يخشى كسر الخطوط الحمراء، جيل اعتاد التواصل عبر شبكات اجتماعية تكشف التناقضات لحظة بلحظة، ولا تنطلي عليه الروايات الرسمية بسهولة. هؤلاء الشباب لا يتحركون من فراغ؛ هم أبناء سنوات من التهميش، دفعوا ثمن السياسات الاقتصادية غير المتوازنة، ويطالبون اليوم بما هو أبعد من مطالب اجتماعية، يطالبون بكرامة كاملة غير منقوصة. ومن هنا، يتجاوز الاحتجاج طابعَه الاجتماعي ليأخذ بُعدا سياسيا واضحا. ويظهر هذا التحول أيضا في طريقة تفاعل الرأي العام الدولي، فالمغرب الذي سعى طويلا لتقديم نفسه كـ”شريك موثوق” يجد اليوم صور القصر الموقوفين والاعتقالات الجماعية تتصدر تقارير المنظمات الحقوقية قبل أيام من حدث عالمي يُفترض أنه احتفالي. وبذلك تتحول عودة الاحتجاجات إلى حدث مزدوج التأثير: داخليا، تُعيد ترتيب أولويات المجتمع المغربي، وخارجيا، تُربك الحسابات الدبلوماسية للرباط التي تجد نفسها مضطرة للدفاع عن نموذج لم يعد مقنعا كما كان.
اعتقالات بالجملة.. هل تكسر القبضة الأمنية موجة الغضب؟
لم يكن إعلان الحركة الشبابية عودتها إلى الشارع حدثا عاديا، خصوصا بعد حملة الاعتقالات الواسعة التي نفّذها المخزن خلال الأسابيع الماضية، والتي بلغت 1473 معتقلا بينهم 330 قاصرا. هذا الرقم وحده يكشف حجم الارتباك داخل السلطة، فحين تختار الدولة مواجهة الاحتجاجات بالقوة بدل الإصلاح، فإنها تدفع الأزمة نحو التعقيد لا الحل. ورغم محاولة الرباط تقديم الاعتقالات كـ“إجراءات ضرورية لاستعادة النظام”، إلا أن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك: فالحركة ليست في حالة تراجع، بل تعود اليوم بزخم أكبر وبمستوى أعلى من التحدي، ما يعني أن القبضة الأمنية فقدت فعاليتها كأداة لاحتواء الشارع. ويكشف إصرار الشباب على التظاهر، رغم تهديدات السجن والأحكام التي وصلت إلى 15 سنة نافذة، أن الشعور بالغُبن تجاوز الخوف، وأن المقاربة الأمنية لم تعد تخيف جيلا نشأ في عالم مفتوح يرى كيف تعيش شعوب أخرى وكيف تدافع عن حقوقها. هذا الجيل يعتبر أن الاعتقال لم يعد وصمة، بل “ثمنًا” يدفعه من أجل كرامة جماعية، وهو ما يُفشل رهان السلطة على الترهيب. فالأدوات القديمة التي كانت تُخمد الاحتجاجات لم تعد صالحة في مواجهة حراك متجدد ومرن وغير هرمي، يصعب التحكم فيه أو تفكيكه. ومع اقتراب اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تتحوّل قضية المعتقلين إلى عنصر ضغط إضافي على الدولة، لأن العالم سيراقب ما يجري، والجمعيات الحقوقية الدولية ستكون أكثر حساسية لأي تضييق. غير أن المفارقة المؤلمة تكمن في أن السلطة التي تستعد لرفع شعارات حقوق الإنسان في المنابر الدولية، هي نفسها التي تزج بمئات القاصرين في “زنازين باردة ومكتظة”، كما وصفت الحركة. هذا التناقض يُضعف الخطاب الرسمي ويزيد من قوة سردية المحتجين، الذين يقدمون أنفسهم كضحايا لنظام يزداد صلابة كلما اشتد النقاش حول الحقوق والحريات. وتدلّ المعطيات الميدانية على أن استمرار الاعتقالات سيعمّق الهوة بين السلطة والمجتمع، لأن القمع لا يلغي أسباب الغضب بل يؤججها. فبدل امتصاص التوتر، يتحول السجن إلى دليل آخر على انسداد القنوات السياسية وغياب الحلول الاقتصادية والاجتماعية. وهنا يظهر سؤال مركزي: هل يدرك المخزن أن تكاليف القمع ستصبح أعلى بكثير من تكاليف الإصلاح؟ فالتاريخ القريب في المنطقة يثبت أن الشارع الذي يُغلق في وجهه الباب، سيبحث دائما عن نافذة أخرى للعودة إلى الساحة.
يوم 10 ديسمبر.. من مناسبة رمزية إلى موعد لاختبار الخطاب الرسمي
يكتسب موعد 10 ديسمبر هذه السنة، دلالة خاصة داخل المغرب، ليس فقط لأنه يتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، بل لأنه يصبح منصة لكشف الهوة العميقة بين الخطاب الرسمي الذي يروّج لصورة “الدولة الحامية للحقوق” والواقع الذي يشهد على اعتقال مئات الشباب وتعنيف مظاهرات سلمية. فبينما تستعد المؤسسات الرسمية لإحياء المناسبة عبر الندوات والبيانات وصور الاحتفالات في الفنادق، يعود الشارع ليفرض روايته الخاصة: رواية الألم الاجتماعي، والبطالة، والتهميش، ومحاكمات القُصّر. وهكذا يتحول اليوم إلى مرآة عاكسة تُظهر ما لا يريد المخزن رؤيته: أن أزمة الحقوق في المغرب بنيوية وليست تعبيرا عن “أحداث معزولة”. وتشير عودة الاحتجاجات في هذا التاريخ الرمزي إلى وعي جديد لدى الشباب، وارتباط مطالبهم بسياق عالمي يرفع فيه المواطنون سقف توقعاتهم من الدولة. فبينما يرفع الخطاب الرسمي شعارات “دولة الحق والقانون”، يرى المحتجّون أن هذه الشعارات فقدت معناها على الأرض، وهو ما يدفعهم لاختيار هذا اليوم تحديداً ليقولوا للمجتمع الدولي: “ها نحن هنا.. وهذه هي حقيقتنا”. وهي خطوة ذكية من الحركة، لأنها تحوّل المناسبة من احتفال بروتوكولي إلى محاكمة رمزية للنظام أمام الرأي العام الداخلي والخارجي. ويُظهر توقيت الاحتجاجات أن الحركة لم تعد تفكر فقط في الضغط المحلي، بل في كسب شرعية حقوقية دولية، خصوصا مع توسع تقارير المنظمات غير الحكومية التي تنتقد أوضاع الحريات في المغرب. وفي اللحظة التي تستعد فيها الرباط لاستقبال الإشادات الشكلية في المناسبات الدولية، يخرج الشارع ليذكّر بأن الواقع الاجتماعي لا يمكن تغطيته بصور رسمية أو بشعارات منمقة. وهذا ما يجعل الاحتجاج يوم 10 ديسمبر أكثر من مجرد مظاهرة، فهو إعادة ترتيب لساحة النقاش، بحيث تنتقل المبادرة من المؤسسات الرسمية إلى الجيل الشاب الذي يعلن رفضه للعب دور المتفرج. أما المفارقة الأكبر، فهي أن النظام المغربي كان يعوّل على الرمزية الدولية لليوم العالمي لحقوق الإنسان لتلميع صورته، فإذا بالمناسبة تُستعاد من قبل المحتجين وتتحول إلى منصة لإبراز الانتهاكات. وهنا يتضح أن إدارة الأزمة لم تعد مرتبطة بالجانب الأمني فقط، بل أصبحت مرتبطة بقدرة المخزن على تقديم إجابات حقيقية، لأن استعادة الاحتجاج لرمزية هذا اليوم تُعد مؤشرا على عمق الأزمة: حركة شبابية تصر على الخروج، وسلطة تواجه مطالب اجتماعية حقيقية بالإنكار والقمع. وفي ظل هذا التوازن الهش، لن يكون يوم 10 ديسمبر مجرد محطة عابرة، بل اختبارا حقيقيا لصدقية الخطاب الرسمي ولقدرة الدولة على مواجهة أسئلة الشارع المتراكمة.
الشرارة تمتد.. هل يدخل المغرب مرحلة “احتجاجات موسمية”؟
تطرح عودة الحركة الشبابية إلى الشارع – رغم موجة الاعتقالات والأحكام القاسية -سؤالا جوهريا حول طبيعة المرحلة المقبلة في المغرب: هل تتجه البلاد نحو دورة احتجاجية موسمية تعود فيها التعبئة الشعبية كلما حاولت السلطة إخمادها بالقوة؟ فالمخزن، الذي راهن طويلا على أن الاعتقال سيكسر إرادة الشارع، يكتشف اليوم أن القمع لم يعد كافيا لإغلاق الملف، وأن الاحتقان الاجتماعي بات أعمق من أن يُدار بالأساليب التقليدية. وعودة الاحتجاجات في يوم رمزي مثل 10 ديسمبر تكشف أن الحركة أصبحت أكثر تنظيما في اختيار توقيتها ورسائلها، وأنها تتعامل بذكاء مع الرمزية الحقوقية لتحويل الغضب الاجتماعي إلى قضية سياسية ذات بعد دولي. ويتضح من خلال المعطيات الحالية، أن الشارع لا يتحرك فقط كرد فعل على حدث طارئ، بل وفق منطق تراكمات: بطالة متفاقمة، تردي الخدمات العمومية، غياب العدالة الاجتماعية، وانسداد قنوات التعبير السياسي. هذه التراكمات تجعل أي شرارة قادرة على إعادة تعبئة آلاف الشباب، خاصة في سياق يشعر فيه المواطن بأن مؤسسات الوساطة – من أحزاب ونقابات – لم تعد تمثله أو تدافع عن مطالبه. وهو ما يفسر سرعة عودة الحركة إلى الفعل الميداني، في تحدٍّ واضح للخطاب الرسمي الذي يروّج لصورة “الاستقرار الاستثنائي”. كما أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي جعل الاحتجاج أقل مركزية وأكثر قابلية للانتشار. ففي الوقت الذي تحاول فيه الدولة محاصرة الحركة تنظيميا، تتوسع مطالبها رقميا، وتنتقل بسهولة بين المدن، مما يخلق نوعا من العدوى الاجتماعية التي يصعب ضبطها أمنيا. وهذا الواقع الجديد يجعل من “الموسمية الاحتجاجية” احتمالا قائما، لأن القمع لم يعد قادرا على وقف انتشار المعلومة أو الحد من التعبئة الرقمية التي توفر للحركة فضاءً موازيا يتجاوز الرقابة التقليدية. ومع كل جولة احتجاجية جديدة، يتآكل جزء من “الشرعية الرمزية” التي يعتمد عليها النظام في تسويق صورته داخليا وخارجيا. فالمشهد الذي يتكرر: شباب يرفعون مطالب اجتماعية بَحتة، ودولة تختار الردّ القضائي بدل الحلول الاقتصادية، يخلق فجوة ثقة تتسع مع الوقت، ويُبقي الباب مفتوحا أمام موجات جديدة من الاحتجاجات. وهكذا تصبح عودة الحركة إلى الشارع يوم 10 ديسمبر ليس مجرد حدث ظرفي، بل علامة على دخول المغرب مرحلة سياسية جديدة، عنوانها الأبرز: مجتمع يعبّر بوضوح، ودولة ما تزال تبحث عن خطاب يُقنع.