مراجعة الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي

اتفاق الأمس لا يليق بجزائر اليوم.. الجزائر تُفعّل بند “رابح – رابح” وتضع الاتحاد الأوروبي أمام الأمر الواقع

اتفاق الأمس لا يليق بجزائر اليوم.. الجزائر تُفعّل بند “رابح – رابح” وتضع الاتحاد الأوروبي أمام الأمر الواقع
  • معطيات جديدة.. والجزائر تفاوض من موقع قوة

تلّقى وزير الدولة, وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، أحمد عطاف، اتصالا رسميا من كايا كالاس، نائب رئيسة المفوضية الأوروبية والممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، للتباحث حول واقع وآفاق العلاقات بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، في وقت دخلت فيه شراكة الطرفين منعطفا حاسما.

فبعد أكثر من عشرين عاما على توقيع اتفاق الشراكة، تعلن الجزائر بوضوح أنها ستراجعه ابتداء من العام الجاري، وفق ما أكده رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، الذي شدد على أن الاتفاق بصيغته الحالية “لم يعد يتماشى مع المعطيات الاقتصادية الجديدة”.

خلفيات مكالمة عطاف – كالاس تعكس تحولا جذريا في نظرة الجزائر لشراكة امتدت لعقدين من الزمن.

فمنذ توقيع اتفاق الشراكة سنة 2002، لم تُراجع الجزائر الاتفاق بشكل شامل، واكتفت بتعديلات جزئية لم تغيّر كثيرا من طبيعة علاقة تجارية وُصفت لاحقا بـ”غير المتوازنة”. اليوم، تتحدث الجزائر بلغة المصالح المشتركة ومبدأ “رابح-رابح”، مدفوعة بمعطيات اقتصادية جديدة تمنحها موقع تفاوض أقوى. الرئيس عبد المجيد تبون، كان واضحا في تأكيده على ضرورة المراجعة، حين قال إن “الاتفاق تم توقيعه في ظرف كانت فيه الجزائر مختلفة تماما”، في إشارة إلى الوضع الاقتصادي والسياسي الذي كانت تعيشه البلاد في بداية الألفية. تصريح يحمل في طيّاته تقييما ضمنيا لفترة ما بعد توقيع الاتفاق، التي عرفت – بحسب خبراء – نزيفا اقتصاديا من جانب واحد، وتجسيدا ناقصا للوعود الأوروبية بالاستثمار ونقل التكنولوجيا. من جانب آخر، تُظهر أرقام المبادلات التجارية مدى هذا الخلل؛ إذ بلغت قيمة الواردات الجزائرية من أوروبا نحو تريليون دولار خلال فترة الاتفاق، مقابل صادرات غير نفطية ضئيلة، مما أدى لخسائر قُدّرت بـ5.5 مليارات دولار نتيجة إلغاء الرسوم الجمركية وحدها، حسب تصريحات اعلامية لخبراء اقتصاديين. هذه الأرقام تفسّر، بوضوح، لماذا ترى الجزائر أن الوقت قد حان لتصحيح المسار. أما الاتحاد الأوروبي، ورغم تحفظه في البداية، فقد أعلن رسميا قبوله لمبدأ المراجعة في فيفري 2025، على لسان سفيره بالجزائر دييغو مايادو، الذي أقر بأن “الوقت قد حان لإعادة النظر في الاتفاق بعد مرور 20 سنة”، مضيفا أن “الجزائر شريك أساسي وضروري لأوروبا”. هذا القبول، وإن تأخر، يعكس إدراكا أوروبيا بأن الاتفاق بصيغته القديمة لم يعد قابلا للاستمرار في ظل تحولات الجزائر والمنطقة.

 

أرقام لا تكذب..

وإذا كانت الجزائر تسعى اليوم إلى “إعادة التوازن” في اتفاق الشراكة، فإن هذا المسعى يستند إلى واقع رقمي لا يمكن تجاهله. فخلال السنوات العشرين الماضية، مالت الكفة بشكل واضح لصالح الاتحاد الأوروبي، سواء من حيث حجم المبادلات، أو في طبيعة العلاقة نفسها، التي غلب عليها الطابع التجاري البحت، بينما غابت عنها الأبعاد التنموية والاستثمارية التي نص عليها الاتفاق.

تشير بيانات المديرية العامة للمفوضية الأوروبية للإحصائيات (يوروستات) إلى أن حجم المبادلات التجارية بين الجزائر والاتحاد الأوروبي بلغ، في الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، نحو 27.4 مليار يورو (29.9 مليار دولار). لكن المشكلة ليست في حجم التبادل، وإنما في اختلال طبيعته: واردات ضخمة من أوروبا، مقابل صادرات جزائرية تهيمن عليها المحروقات بنسبة تقارب 95%، مع غياب ملحوظ لأي طفرة في التبادل التكنولوجي أو الاستثماري.

هذا الواقع جعل الجزائر تتحمل خسائر تراكمية جسيمة، قدّرها بعض الخبراء بما يفوق 30 مليار دولار منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ سنة 2005. ويُعزى ذلك، بحسبهم، إلى “فشل الطرف الأوروبي في تفعيل بنود التعاون الصناعي ونقل التكنولوجيا، وبقاء تلك البنود مجرد شعارات معلقة”. وهو ما أضعف قدرة الجزائر على المنافسة، وعمّق تبعيتها في العديد من القطاعات الصناعية والغذائية.

انطلاقا من هذه الأرقام، يبدو أن الجزائر لم تعد تقبل بموقع المتلقي السلبي داخل شراكة غير متكافئة، بل تسعى لتحويلها إلى فضاء إنتاج واستثمار متبادل. وهنا يكمن جوهر المطلب الجزائري: شراكة تقوم على القيمة المضافة المشتركة، وليس فقط على الاستهلاك والتصدير الأحادي الاتجاه.

 

معطيات جديدة تُعيد رسم المعادلة

وإذا كانت المرحلة السابقة قد شهدت تفوقا أوروبيا على المستوى التجاري، فإن معطيات المرحلة الحالية تمنح الجزائر موقعا تفاوضيا مختلفا تماما. لم تعد البلاد ذلك الطرف الذي خرج لتوّه من أزمة أمنية واقتصادية، بل أصبحت تملك أوراقا استراتيجية تُحسب لها على طاولة المفاوضات، سواء من حيث الاستقرار السياسي أو القدرة على ضمان أمن الطاقة لأوروبا.

الرئيس تبون، في أكثر من مناسبة، لمّح إلى هذه النقطة، مشيرا إلى أن الجزائر لم تعد كما كانت، وأن الاتفاق تم توقيعه في “مرحلة استثنائية” كانت البلاد فيها تخرج من أزمة أمنية واقتصادية، جعلتها تفاوض من موقع ضعيف. أما اليوم، فالوضع مختلف، كما قال: “لدينا اقتصاد صاعد، واكتفاء ذاتي في قطاعات حيوية، وشركاء جدد يتوافدون علينا”، في إشارة واضحة إلى رغبة الجزائر في استغلال مكانتها الجديدة لإعادة صياغة قواعد اللعبة.

الرئيس تبون صرّح أيضا، أن “مراجعة اتفاق الشراكة تفرضه معطيات اقتصادية واقعية، وليست ناتجة عن نزاع أو توتر”. هذه المعطيات تشمل التحول الكبير في بنية الاقتصاد الوطني، بفضل سياسات تشجيع الإنتاج المحلي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالات متعددة، منها الزراعة، وصناعة الإسمنت، وبعض المواد الغذائية، إلى جانب القفزات التي حققتها البلاد في مجال التصدير خارج المحروقات. في السياق نفسه، يرى خبراء اقتصاديون في تصريحات اعلامية منفصلة، أن “الجزائر تفاوض اليوم من موقع أقوى بكثير مما كانت عليه سنة 2002، حيث كان ناتجها المحلي لا يتجاوز 100 مليار دولار، في مقابل ناتج أوروبي بلغ حينها 11 تريليون دولار”. أما اليوم، فالجزائر تُعد أحد أهم مزوّدي أوروبا بالغاز الطبيعي، وتحظى باعتراف دولي باستقرارها السياسي، وهو ما يعزز ثقة المستثمرين ويمنحها مزيدا من التأثير الجيوسياسي. في هذا السياق، يرى خبراء أن الجزائر باتت تمتلك “أوراق تفاوض حقيقية”، منها موقعها الجيو-استراتيجي، واستقرارها الأمني، وقدراتها المتزايدة في مجال الطاقة والتصدير، إلى جانب بنيتها التحتية المتطورة والفرص المتاحة للمستثمرين. كل ذلك جعل من الجزائر شريكا جذابا، لا مجرد سوق مفتوحة للبضائع الأوروبية. وبدوره، صرح سفير الاتحاد الأوروبي بالجزائر، دييغو مايادو، أن “الوقت قد حان لإعادة النظر في الشراكة بعد 20 سنة”، مؤكدا أن العلاقات مع الجزائر “أساسية”، وأن الاتحاد يرحب بتوجه الجزائر نحو تنويع اقتصادها، بل ويدعم تعميق الشراكة وفق مبدأ “الربح للجميع”. وهو تصريح يُقرأ كإقرار أوروبي بالتغير العميق في موازين القوة الاقتصادية. في ضوء كل هذه التحولات، فإن الجزائر تدخل جولة مراجعة الاتفاق بنَفَس استراتيجي جديد، قائم على احترام الذات الاقتصادية، وتعزيز الاستثمار المنتج، وفرض توازن في المصالح. فلم يعد من المقبول أن تستمر علاقة الشراكة وفق مقاربة تُربح طرفا واحدا فقط، والمطلوب اليوم اتفاق يحفظ كرامة الطرفين، ويفتح آفاقا حقيقية للتنمية الثنائية والمتكاملة.

 

اختلالات قديمة.. ومكاسب ضائعة تحت مظلة الشراكة

وبينما تفتح الجزائر صفحة جديدة من التفاوض من موقع قوة، فإن العودة إلى الوراء تُظهر حجم الخلل الذي لازم اتفاق الشراكة طوال عقدين من الزمن.

فرغم الطموحات التي حملها الاتفاق الموقع سنة 2002، لم تُترجم الكثير من بنوده إلى واقع فعلي يخدم التنمية المتوازنة بين الطرفين، بل إن الميزان التجاري ظل يميل بوضوح لصالح الاتحاد الأوروبي. تشير الأرقام إلى أن الجزائر تكبدت خسائر مالية تُقدّر بأكثر من 30 مليار دولار، نتيجة الإعفاءات الجمركية التي استفادت منها المنتجات الأوروبية دون مقابل استثماري يُذكر. وقد أشار خبراء إلى أن الواردات الأوروبية بلغت تريليون دولار منذ بدء تنفيذ الاتفاق، في وقت بقيت فيه الصادرات الجزائرية –باستثناء المحروقات– ضعيفة، ما انعكس سلبا على النسيج الصناعي المحلي. من جهة أخرى، لم تفِ أوروبا بالتزاماتها بشأن نقل التكنولوجيا أو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، مثل الفلاحة والصناعات الغذائية. ورغم النصوص التي تضمنها الاتفاق في هذا المجال، بقيت في أغلبها “شعارات دون تطبيق”، وفق تعبير الخبراء. وهو ما دفع الجزائر إلى اتخاذ خطوات لحماية صناعتها الوطنية، أبرزها فرض قيود على الاستيراد سنة 2021، وهو ما أثار حفيظة بروكسل ودفعها إلى التلويح باللجوء إلى التحكيم الدولي.

لكن الجزائر، بدلا من التراجع، فتحت باب الحوار وأعادت تقييم الاتفاق من خلال لجان مختصة، وطرحت مراجعة حقيقية تقوم على مبدأ التوازن. وهذا ما أكد عليه الرئيس تبون حين صرّح بأن المراجعة “ضرورية، لكنها لن تكون صدامية”، لأن الجزائر “تحافظ على علاقات طبيعية مع شركائها الأوروبيين”.

بالتالي، فإن مراجعة الاتفاق تُعد استعادة لحقوق اقتصادية ضائعة، وتثبيتا لرؤية جديدة في التعامل مع الشركاء الدوليين، قائمة على الإنصاف، وحماية المصلحة الوطنية، وإعادة تعريف مفهوم “الشراكة” بما يتجاوز التجارة نحو التعاون التنموي الحقيقي.

 

نحو اتفاق متوازن..

وإذا كانت الجزائر اليوم تفاوض من موقع قوة، فإن الهدف لا يتمثل فقط في تعديل بعض البنود، وإنما في إعادة بناء الشراكة على أسس استراتيجية جديدة، قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المتوازنة. فمراجعة اتفاق 2005 تحولت إلى أولوية وطنية تعكس التحولات الكبرى التي شهدها الاقتصاد الجزائري، والطموحات التي تضعها الدولة في أفق 2030. التحول لا يتعلق فقط بأرقام المبادلات، وإنما بفلسفة التعاون في حد ذاتها. كما أوضح الرئيس تبون، فإن الجزائر تريد “اتفاقا لا يقوم على نزاع بل على دعم العلاقات الطيبة”، وهذا ما يعكس رغبة الجزائر في الحفاظ على شراكتها مع الاتحاد الأوروبي، ولكن ضمن قواعد جديدة تتوافق مع واقعها الاقتصادي والسيادي. من جهته، شدد سفير الاتحاد الأوروبي على أن سنة 2025 ستكون “فرصة مواتية لتعميق الشراكة”، مشيرا إلى إمكانية تطوير “التكامل الاقتصادي بين الطرفين”، وداعيا إلى مراجعة الميثاق من أجل المتوسط بما يتماشى مع المتغيرات. وهو خطاب يدل على استعداد أوروبي لمجاراة الرؤية الجزائرية الجديدة، وتجاوز الحسابات القديمة التي أضرت بالتوازن في العلاقة.

م. ع