أنوار من جامع الجزائر

إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم الْأَخْلَاقِ – الجزء الأول –

إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم الْأَخْلَاقِ – الجزء الأول –

فِي خِضَمِّ انزلاقِ الْعَالَمِ في حمْأَةِ الْمَادِّيَّاتِ، وَتَسَابُقِهِ نَحْوَ الْمَظَاهِرِ الزَّائِلَةِ، تُطِلُّ عَلَيْنَا قِيمَةٌ عُظْمَى وَأَصْلٌ سَامِي مِنْ أُصُولِ دِينِنَا، أَلَا وَهِيَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ؛ التي حَصَرَ النَّبِيُّ غَايَةَ بِعْثَتِهِ وَهَدَفَ رِسَالَتِهِ فِيها حِينَ قَالَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ” وَفِي رِوَايَةٍ “مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ”. وَهَذَا الْحَصْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ أَمْرًا ثَانَوِيًّا أَوْ كَمَالِيًّا فِي الْإِسْلَامِ، بَلْ هِيَ جَوْهَرُهُ وَأَسَاسُهُ. لَقَدْ كَانَ نَبِيُّكُمْ الْقُدْوَةَ الْعُظْمَى، وَالْأِسْوَةَ الْحَسَنَةَ، شَهِدَ لَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ فَقَالَ: “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ”. وَعِنْدَمَا سُئِلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِهِ، قَالَتْ كَلِمَتَهَا الْخَالِدَةَ: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ”. أَيْ أَنَّهُ كَانَ تَرْجَمَةً عَمَلِيَّةً، وَتَطْبِيقًا وَاقِعِيًّا لِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَقِيمَةٍ دَعَا إِلَيْهَا كِتَابُ اللَّهِ. وَمَا أَحْوَجَنَا الْيَوْمَ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ-أَنْ نَعُودَ إِلَى أَخْلَاقِ الْقُرْآنِ، وَأَخْلَاقِ النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ. فِي زَمَنٍ طَغَتْ فِيهِ الْأَنَانِيَّةُ وَالْجَشَعُ، وَسَادَتْ فِيهِ الْقَسْوَةُ وَالْفَظَاظَةُ، نَحْنُ بِأَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.  لَقَدْ تَجَلَّت مَكَارِمُ الأَخْلاقِ التِي كان يدعو إليها حبيبنا وسيدنا رسول الله ‘ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِهِ… فِي رَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَرْحَمَ مِنْهُ. سَلَّطَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ كُلَّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، طَرَدُوهُ، وَحَارَبُوهُ، وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا مَكَّنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَفَ أَمَامَهُمْ يَقُولُ بِلِسَانِ الْمُنْتَصِرِ الْمُتَوَاضِعِ: “مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟”. قَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ”. وَعِنْدَمَا عَرَضَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْجِبَالِ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ آذَوْهُ، قَالَ قَوْلَتَهُ الرَّحِيمَةَ: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”. يَقُولُ خَادِمُهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: “خَدَمْتُ النَّبِيَّ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟”. وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَقُولُ: “مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. أَمَّا عَنْ إِيثَارِهِ وَكَرَمِهِ وإِحْسَانِهِ، فَكَانَ لَا يَرُدُّ سَائِلًا أَبَدًا، بلْ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه “أَجْوَدَ النَّاسِ”. يجبُ علينا -مَعَاشِرَ المُؤْمِنينَ- أَن نُفَعِّلَ هَذِهِ المَنْظُومَةَ المُتَكَامِلَةَ مِنَ مكارمِ الأَخْلَاقِ التِي جَاءَ النَّبِي لإتمامِهَا، فإن له علينا حقوقا فيها يلزمُنَا الوَفَاءُ بِهَا: فَمِنْ حَقِّهِ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ إِيمَانًا صَادِقًا، وَأَنْ نُوَقِّرَهُ وَنُعَظِّمَهُ، فَلَا نُقَدِّمَ عَلَى قَوْلِهِ وَهَدْيِهِ قَوْلَ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَمِنْ حَقِّهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ أَمْرَهُ، وَنَتَّبِعَ هَدْيَهُ، وَأَنْ نَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ، فَنَجْعَلَ مِنْ سِيرَتِهِ مَنْهَجَ حَيَاةٍ لَنَا فِي بُيُوتِنَا وَمَعَ أَهْلِنَا، وَفِي أَسْوَاقِنَا وَمُعَامَلَاتِنَا، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فِي حَيَاتِنَا. وَمِنْ حَقِّهِ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ مَحَبَّةً تَفُوقُ حُبَّنَا لِأَنْفُسِنَا وَلِأَهْلِنَا وَلِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ. بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَجَعَلَنِي وَإِيَّاكُم مِنَ السَّالِكِينَ مَدَارِجَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر