طغمة انقلابية في مالي تودع عريضة مخزية ضد الجزائر في "لاهاي"

إنقلابيون يستنجدون بالعدل!!

إنقلابيون يستنجدون بالعدل!!
  • المفارقة المالية: قانون غائب في الداخل… مستدعى في الخارج

  • الطغمة المالية تحاول صناعة عدو خارجي للتغطية على أزماتها الداخلية

  • الجزائر تؤكد احترامها للقانون الدولي وترفض استغلال محكمة لاهاي للتلاعب

 

في خطوة توصف بأنها “مخزية ومناورة يائسة”، اختارت الطغمة الانقلابية في مالي أن ترتدي ثوب المدافع عن القانون الدولي، وهي التي مزّقت دستورها وأطاحت بالشرعية تحت جنازير الدبابات. فبعد أن أغرقت بلدها في فوضى سياسية وأمنية واقتصادية، ها هي اليوم تحاول عبثا ايداع عريضة ضد الجزائر في محكمة العدل الدولية متهمة إيّاها بإسقاط طائرة مسيّرة ظلما، في مشهد أقرب إلى العبث السياسي منه إلى العدالة. الجزائر، التي خبرت أزمات المنطقة واحتضنت وساطات متكررة لإنقاذ مالي، ترى في هذه الدعوى المفبركة محاولة بائسة لصناعة عدو خارجي يعلّق الانقلابيون عليه فشلهم الذريع، بينما تبقى الحقيقة ساطعة: من لا يحترم قانونه في الداخل، لا يملك أي شرعية لادعاء التمسك بالقانون في الخارج.

 

مع مطلع سبتمبر، أعلنت حكومة مالي أنها رفعت دعوى قضائية ضد الجزائر أمام محكمة العدل الدولية في أعقاب حادثة الطائرة المسيرة، في خطوة أثارت كثيرًا من التساؤلات حول خلفياتها وتوقيتها. فبدل الانشغال بترميم الداخل المنهار سياسيًا واقتصاديًا، اختارت السلطة الانقلابية فتح جبهة جديدة مع دولة جارة طالما وقفت مع الشعب المالي في أحلك الظروف. ولم يكن الهدف في الحقيقة سوى صناعة حدث خارجي يغطّي على الإخفاقات الداخلية المتراكمة.

 

لكن المفارقة سرعان ما ظهرت إلى العلن: ففي 13 سبتمبر، أكد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف أن الخبر “ادعاء كاذب”، مشددًا على أن محكمة العدل الدولية لم تبلغ الجزائر بأي شكوى من هذا النوع. هذا التكذيب أربك باماكو ووضعها في موقف حرج أمام المجتمع الدولي، إذ بدا واضحًا أن الإعلان المالي لم يكن أكثر من محاولة للاستهلاك الإعلامي.

وما هي إلا أيام حتى اضطرت السلطات المالية، بعد انكشاف زيف روايتها، إلى إيداع عريضة رسمية يوم 16 سبتمبر، وهو ما أعلنت عنه محكمة العدل الدولية لاحقًا. وبذلك تحوّلت قضية الطائرة المسيّرة من “كذبة إعلامية” إلى “عريضة مخزية”، تكشف كيف تتعامل الطغمة الانقلابية مع القانون الدولي بمنطق المناورة لا بمنطق العدالة.

 

رد الجزائر… مناورة لا دعوى

منذ اللحظة الأولى، تعاملت الجزائر مع الخطوة المالية باعتبارها “مناورة سياسية مكشوفة” لا ترتقي إلى مستوى دعوى قانونية حقيقية. فوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية سارعت إلى إصدار بيان حازم وصريح، وصفت فيه العريضة المالية بـ”المخزية”، مؤكدة أن الجزائر لن تنجرّ وراء هذا السيناريو المسرحي الذي لا يهدف سوى إلى تضليل محكمة العدل الدولية. هذا الرد السريع عكس وضوح الرؤية الجزائرية: القضية ليست قانونية، بل محاولة يائسة للهروب من مأزق داخلي خانق.

الجزائر، التي تدرك مكانتها كدولة إقليمية محورية، لم تكتفِ بالرفض، ووضعت الأمور في إطارها الصحيح: من غير المنطقي أن تأتي الاتهامات من سلطة انقلابية ضربت بالدستور عرض الحائط، وتسعى اليوم للتسويق لنفسها كمدافع عن القانون الدولي. وبذلك أعادت الجزائر النقاش إلى جوهر المفارقة: كيف يمكن لسلطة بلا شرعية أن تطالب بالشرعية في المحاكم الدولية؟

كما شددت الجزائر في بيانها على احترامها العميق لمحكمة العدل الدولية وللقانون الدولي عامة، مؤكدة أن رفضها لهذه الدعوى لا يعني رفضها للقانون، بل على العكس، هو دفاع عن قدسية القانون الدولي من الاستغلال والتسييس. بهذا الموقف، وضعت الجزائر نفسها في موقع من يحمي نزاهة المؤسسات الدولية، مقابل من يحاول تلويثها بدعاوى باطلة.

الرد الجزائري بدا أكثر من مجرد موقف دبلوماسي؛ لقد كان رسالة سياسية قوية إلى الداخل والخارج مفادها أن الجزائر لن تكون “كبش فداء” لفشل الطغمة الانقلابية في مالي، وأنها ترفض أن تتحول قاعات لاهاي إلى مسرح لمناورات من فقدوا كل شرعية في بلدانهم.

 

مفارقة الانقلاب: قانون غائب في الداخل… مستدعى في الخارج

تبدو المفارقة صارخة حين تتحدث الطغمة الانقلابية في مالي عن “الاحتكام للقانون الدولي”، بينما هي ذاتها التي أطاحت بالدستور وألغت المسار الديمقراطي في بلدها. كيف يمكن لسلطة صعدت على أنقاض الشرعية الدستورية أن تروّج اليوم لصورة الحامي للقانون الدولي؟ هذا التناقض يكشف عمق الأزمة الأخلاقية والسياسية التي تعيشها باماكو، ويُسقط عنها أي ادعاء بالمصداقية.

الانقلابيون الذين تجاهلوا أصوات شعبهم وأغلقوا أبواب الحوار الداخلي، يحاولون الآن إيهام المجتمع الدولي بأنهم متمسكون بالعدل، وكأن القانون لا يُطبَّق إلا حين يتعلق بجيرانهم. إنهم يرفعون شعار القانون في الخارج، بينما يسحقونه في الداخل بلا هوادة. هذه الازدواجية لا يمكن أن تمر دون قراءة معمقة لطبيعة العقلية التي تدير شؤون مالي اليوم: عقلية ترى في القانون أداة انتقائية، لا مبدأ جامعًا.

الجزائر، التي تابعت عن كثب انهيار الشرعية في مالي، لم تتفاجأ بهذا التناقض، لكنها فضّلت أن تفضحه بوضوح للرأي العام الدولي. فبينما يحاول الانقلابيون إقناع العالم بوجاهة دعاواهم، تذكّر الجزائر الجميع بأن هذه السلطة هي ذاتها التي أوصلت مالي إلى كارثة سياسية واقتصادية وأمنية غير مسبوقة. أيّ مصداقية يمكن أن تُمنح لسلطة كهذه وهي غارقة حتى النخاع في الفشل؟

المفارقة التي تثير السخرية لا تكمن فقط في مضمون الدعوى، وإنما في رمزية أصحابها: انقلابيون بلا شرعية يزعمون الدفاع عن الشرعية، وحكّام بالقوة يزعمون الاحتكام إلى القانون. إنها مفارقة تكفي وحدها لإسقاط الدعوى أخلاقيًا وسياسيًا، حتى قبل أن تبتّ فيها محكمة العدل الدولية.

 

أزمة شرعية تبحث عن كبش فداء

منذ أن استولت الطغمة الانقلابية على السلطة في باماكو، والبلاد تغرق في أزمات متلاحقة: تدهور اقتصادي حاد، هشاشة سياسية غير مسبوقة، وانفلات أمني يهدد وحدة الدولة. هذه الأزمة المتعددة الأبعاد ولّدت شعورًا عميقًا بالرفض الشعبي والعزلة الدولية، ما جعل قادة الانقلاب يبحثون عن مخرج يخفف الضغط عنهم. وهنا برزت فكرة تحويل الجزائر إلى “عدو خارجي” يُلقى عليه اللوم.

 

اتهام الجزائر بإسقاط طائرة مسيّرة لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من محاولات الهروب إلى الأمام. فالانقلابيون يدركون أن مشاكل مالي ليست في الخارج، بل في سياساتهم القمعية وفشلهم في بناء مؤسسات شرعية. ومع ذلك، اختاروا أن يختبئوا خلف اتهامات باطلة، متوهمين أن صناعة “خصم خارجي” سيمنحهم غطاءً سياسيًا يعوّض عن فقدان الشرعية في الداخل.

الجزائر، من جهتها، فضحت هذا المخطط بوضوح. فهي تعلم أن الهدف من وراء العريضة ليس البحث عن العدالة، وإنما إلهاء الشعب المالي عن واقعه المأساوي. ففي ظل البطالة المتفاقمة، وانهيار الخدمات العامة، وتوسع رقعة العنف المسلح، يسعى الانقلابيون إلى تصدير أزماتهم عبر افتعال خصومة مع جار لطالما ساعدهم. إنها استراتيجية مألوفة لدى الأنظمة الفاشلة: عندما يعجز الداخل، يُفتعل الخارج. بهذا المنطق، تصبح الدعوى أمام محكمة العدل الدولية مجرد ستار سياسي لإخفاء حقيقة بديهية: الطغمة الانقلابية في مالي فقدت الشرعية وفشلت في الحكم، ولا تجد اليوم سوى الجزائر لتعلق عليها خطاياها. لكن هذه المناورة، مهما بدت صاخبة في الإعلام، تبقى عاجزة عن إقناع الداخل المالي أو المجتمع الدولي بجدواها، لأنها تنطلق من أزمة شرعية لا حل لها في قاعات المحاكم.

 

الجزائر بين احترام القانون الدولي ورفض التلاعب

منذ استقلالها، تبنّت الجزائر موقفًا ثابتًا يقوم على احترام الشرعية الدولية والاحتكام إلى المؤسسات الأممية في إطار القضايا العادلة. لذلك لم يكن غريبًا أن تؤكد في بيانها الأخير تقديرها لمحكمة العدل الدولية باعتبارها هيئة مرموقة، وفي الوقت ذاته رفضها القاطع أن تتحول هذه المؤسسة إلى أداة للمناورات السياسية. فالجزائر ترى أن حماية هيبة القانون الدولي واجب، وأن تركه ساحة للعبث من قِبل سلطات انقلابية فاقدة للشرعية يُعد خطرًا على مصداقية العدالة الدولية نفسها.

الجزائر بهذا الموقف جمعت بين صرامة الرفض وسمو المبادئ. فهي لم تكتفِ بتكذيب الادعاءات المالية، بل أوضحت أن دعوى من هذا النوع تمثل استخفافًا بالقانون أكثر مما تمثل احترامًا له. فالمسألة لا تتعلق بخصومة ثنائية بين بلدين فقط، بل باحترام مؤسسة دولية يفترض أن تبقى محايدة وعادلة، بعيدًا عن محاولات التضليل والتسييس.

كما أرسلت الجزائر رسالة واضحة إلى الداخل والخارج: لن تكون طرفًا في مسرحية سياسية تستغل اسم محكمة العدل الدولية لتغطية على فشل سلطة انقلابية. فهي تفرق جيدًا بين اللجوء المشروع إلى العدالة الدولية في نزاعات حقيقية، وبين استغلال هذه العدالة في قضايا مختلقة هدفها صناعة عدو وهمي. هذه الرسالة أعادت التذكير بأن القانون الدولي ليس ورقة انتخابية أو دعاية إعلامية، وإنما هو ركيزة أساسية لحفظ السلم والاستقرار بين الدول.

الجزائر لا تعارض مبدأ الاحتكام إلى القانون، لكنها في الوقت نفسه ترفض التلاعب به. فهي تدرك أن مكانتها الدبلوماسية والإقليمية تفرض عليها واجب الدفاع عن القيم النبيلة للشرعية الدولية، حتى في مواجهة محاولات بائسة كتلك التي لجأت إليها الطغمة الانقلابية في مالي. وبذلك وضعت الجزائر الحد الفاصل بين من يحترم القانون كقيمة، ومن يتلاعب به كوسيلة.

ع م