كان لزاما على المكلَّفين من المؤمنينَ أن يأخذُوا بأسباب الكسبِ ضِمنَ مقامِ التَّوكُّل، وأن يتعاملُوا مع مقوِّمَات الحياةِ، من طلبِ مال، واستطبابٍ، وحركةٍ، وضربٍ في الأرض، بضوابطَ دقيقةٍ، وقواعدَ رصينةٍ، حتى لا يحيدُوا عن صراطِ الله القويمِ، بأن يركَنُوا إلى شهواتِ الدنيا الفانيةِ، فتنسيَهُم الدارَ الباقيةَ، ولنقِفْ على كلام حجَّةِ الإسلام أبي حامدٍ الغزالي قدَّس الله سره، وهو يذكِّرنا بضوابط التدبير والتسببِ، ممثلا بوظائفِ المال من المنظورِ الشرعيِّ، حيثُ يقولُ: ” اعلم أن المالَ كما وصفناهُ خيرٌ من وجهٍ؛ وشرٌّ من وجهٍ، ومثاله: مثالُ حيَّةٍ يأخذُها الرَّاقي ويستخرجُ منها الترياقَ، ويأخذُها الغافل فيقْتُله سمُّها من حيثُ لا يدري، ولا يخلو أحد عن سمِّ المال إلا بالمحافظةِ على خمسِ وظائفَ:
الأولى: أن يعرفَ مقصودَ المال، وأنه لماذا خُلِقَ، وأنه لم يُحْتَجْ إليه حتَّى يُكْتَسَب، ولا يُحفظُ إلا قدرَ الحاجة، ولا يُعْطِيه من همَّتِهِ فوقَ ما يستحقُّهُ.
الثانية: أن يراعِيَ جهةَ دخلِ المال فيجتنبُ الحرام المحضَ، ويجتنبُ الجهاتِ المكروهَةَ القَادحَةَ في المروءةِ كالهدايا التي فيها شَوائبُ الرِّشوة، وكالسُّؤالِ الذي فيه الذِّلَّةُ وهتكُ المروءةِ، وما يجْرِي مَجْرَاه، إذ يقبُحُ بالعَبدِ المُرِيدِ أن يَتَعَرَّضَ لسُؤَالِ العَبِيدِ، وهُوَ يَجِدُ عنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُ.
الثالثة: في المقدارِ الذي يكتسبهُ فلا يستكثرْ منه ولا يستقِلَّ، بل القدْرُ الوَاجِبُ ومِعْيَارُهُ الحَاجَةُ، والحاجةُ ملبسٌ ومسكنٌ ومطعمٌ.
الرابعة: أن يراعِيَ جهةَ المخرجِ، ويقتصدَ في الإنفاق غيرَ مبذِّر ولا مُقَتِّرٍ، فيضعُ ما اكتسبه من حلِّه في حقِّه، ولا يضعُهُ في غير حقِّهِ، فإنَّ الإثمَ في الأخذِ من غيرِ حقِّهِ؛ والوضعَ في غير حقِّه سواءٌ.
إنَّ الشَّريعةَ الغرَّاءَ جاءَتْ لِتُقَرِّرَ القواعِدَ الغالبةَ التي تَضْبِطُ أمورَ الناسِ، لذا أقرَّ سيِّدُنا رسولُ الله عليهِ السَّلامُ وهوَ رأسُ المُتَوَكِّلِينَ، وإمامُ المُتَجَرِّدِينَ هذا المَقَامَ تشريعًا للأمَّةِ، وأمرَ به عمومَ الناسِ، حيثُ وجَّه سعدًا رضيَ الله عنه حينَ أرادَ التصدُّقَ بجميعِ مالِهِ إلى التصدُّق بثُلُث المَال، وقال له كما عندَ البخَاريِّ: ” الثُّلُثُ والثُّلُثُ كبيرٌ أو كثيرٌ، إنَّكَ أن تَذَرَ ورثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ منْ أن تَذَرَهُمْ عالَةً يتَكَفَّفُونَ النَّاسَ”.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر