أنوار من جامع الجزائر.. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا – الجزء الثاني والأخير –

أنوار من جامع الجزائر.. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا – الجزء الثاني والأخير –

إنَّ سَلَامَةَ الصَّدْرِ تُطفِئُ نَارَ الخِلَافِ، وتحفَظُ البيوتَ من التَّصَدُّعِ، وتجمَعُ بين القُلُوبِ، وتُوَحِّدُ بين الصُّفُوفِ، فكم من عائلَةٍ تَفَكَّكَتْ بِسَبَبِ أَحْقَادٍ دفينَةٍ، وكم من صَدَاقَةٍ قُطعَتْ بسَبَبِ غِلٍّ في الصَّدْرِ، وكم من صفُوفٍ تَفَرَّقَتْ بِسَبَبِ مُخَاصَمَةٍ أو شَحْنَاءَ ولا بَغْضَاءَ بغيرِ حَقٍّ،إنّ دينَنَا الحَنِيفَ يفرِضُ علينا فَرْضًا مُؤَكَّدًا أن نكونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ كما كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين مَدَحَهُمْ اللّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فقال: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ” الفتح: 29، وذَكَّرَهُمْ بأَعْظَمِ مِنَّةٍ مَنَّهَا عليهم وهي جَمْعُ كَلِمَتِهِمْ وَتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ” الأنفال: 63، وحَذَّرَهُمْ فقال: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ” آل عمران: 105. ففي ظلّ الجماعة والوحدة، نحقّق الكثير ممّا ينفع ويفيد؛ وفي ظلماتِ الفرقةِ والخلافِ نضيّع الجهودُ وكثيرًا من المنافعِ والثّمراتِ. لقدآن لنا أن نعتبر بأحوال السّالفين؛ فنتذكّر ونذكّر: بأنّ الواجب على كلّ واحد منّا أن يبسط يده لأخيه، نقيّة طاهرة، ليلتقي الجميع في ساحة الأخوّة الصّادقة، وفي ظلالِ التّعاونِ والتّضامنِ الصّحيحِ. والكلُّ في حقِّ الحياةِ سواء. إنّ أُمَّتَنَا الجزائريَّةَ قد وَحَّدَهَا الإسلَامُ بعد فُرْقَةٍ وشَتَاتٍ وتَنَافُرٍ، وجَمَعَ شَمْلَهَا بعد تَقَاطُعٍ وتَدَابُرٍ، وأَعْلَى شَأْنَهَا بعد ضَعْفٍ وهَوَانٍ، فصارت وَطَنًا وَاحِدًا يَسَعُ الجَمِيعَ، يعيشُ أَهْلُهُ في أُلْفَةٍ صَادِقَةٍ وإِخَاءٍ خَالِصٍ، وفي وِفَاقٍ وَوِئَامٍ ومَوَدَّةٍ والْتِئَامٍ، وما كان إلّا الإسلام ليجمع القلوب المتنافرة، بعد فرقة وخصام. وسيبقى الإسلام قوام حياتنا، وضامن وحدتنا.                   إنّ اتّخاذنا الإسلام أساسًا لوحدتنا الوطنيّة يبارك هذه الوحدة، ويرسي قواعدها، ويحصّن أركانها، إذ يجعل قضيّة الوطن من صميم العقيدة. فحبّ الوطن من الإيمان. ومادامت الوحدة الوطنيّة قائمة على الإسلام، فسيظلّ بناؤها شامخًا، لأنّ أصلها ثابت، وفرعها في السّماء.وكم حاول الاستِدْمَارُ البغِيضُ أن يفَرِّقَ كلِمَةَ شعبِنَا ويزرَعَ فيه الفتنَةَ ويثيرَ الفُرْقَةَ والخِصَامَ ولم يستطِعْ، لأنّ ما جمعتْهُ يَدُ اللّهِ لا تُفَرِّقُهُ يَدُ الشّيطَانِ، ولا يَزَالُ أعدَاءُ الجزائِرِ يحاولون باستمرًارٍ أن يثيروا الفِتَنَ ويُحَرِّكُوا أسبابَ التَّقَاطُعِ وأَعَاصِيرَ الشِّقَاقِ، ويُهَيِّجُوا العصبيَّةَ لتمزِيقِ شَمْلِ الأمَّةِ، مَا أَعْظَمَ عنَايَةَ اللّهِ بالجَزَائِرِ، وَمَا أَعْظَمَ فَضْلَهُ بهذه الأُمَّةِ، إِذْ جَعَلَ الاجتمَاعَ والائْتِلَافَ رُوحًا تسرِي في قُلُوبِ شَعْبِنَا الجزائِرِيِّ المسلِمِ، وأكرَمَنَا بِحُبِّ الوَطَنِ ولو تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ، وجَمَعَ بيننا بالأُخُوَّةِ فَتَشَابَكَتْ أيدينَا على التَّعَاوُنِ والتَّآزُرِ،فتَحَقَّقَ فينا قولُهُ تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا” آل عمران: 103، وصَدَّ عَنَّا كَيْدَ الخَائِنِينَ وعُدْوَانَ الظَّالِمِينَ، فَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وتَبَدَّدَتْ قِوَاهُمْ، فَكَانوا قَوْمًا بُورًا، كما قال تعالى “كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ” المائدة: 64.

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر